لا أتذكر أين التقيتها بالضبط، ربما في مناسبة اجتماعية، خرجت كثيرا في الفترة الأخيرة، ربما في صالون الحلاقة، أو صالة الرياضة، أو عند الخياطة، لا أستطيع أن أحدد، صرت أنسى كثيرا، أمر غريب، لم لا تتيقظ ذاكرتي إلا عندما يتعلق الأمر بحسام، زوجي؟! أتذكر تفاصيل خيانته الأخيرة. تراس المقهى المشجر، المناضد الخشبية الصغيرة المزينة بشراشف بيضاء مطرزة بالأخضر والأصفر، أيادي الصبية العابثة بزهرة المارغريت المدلاة من مزهرية بورسلين جميلة، طلاء أظافرها الأحمر القاني، أسنانها الناصعة، وخصلاتها المرتبة بعناية فائقة حول وجهها الطفولي المستدير، أصابعه اللاهية بعقب سيجارة فاخرة، وشفتاه المنخرطتان في حديث لا تقطعه سوى رشفات فنجانه المتباعدة، التفت إليّ بارتباك، ووقف.
رمى عقب السيجارة، وقدمها إليّ.
ابنة صاحب الشركة، لم يستطع والدها مرافقتها إلى المقهى، ملت من جو المكتب.
جليلة حذرتني، غدر الأحبة يترقبني، إيميلاتها فاجأتني، كيف حصلت على عنواني الإلكتروني؟ كيف نسيت تفاصيل لقائي بها؟ طلبت منها أن تذكرني، ردت بأن ذلك غير مهم، هي تهتم بي، وتتفهمني، وتريد فعلا أن تكون صديقتي.
بعثت إلي الكثير من الرسائل، كل يوم، كلما فتحت صندوق بريدي، أجد إيميلها بانتظاري.
كوني حذرة، نصحتني، أحبتك يستغفلونك، لا تصدقي كل ما يروونه لك، كوني خبيثة أنت أيضا، تظاهري بالبراءة، واكتشفي ما يختفي خلف الأقنعة.
لم تكن تلك خيانته الأولى، لكن جرمه يومها كان مزدوجا، صبية جميلة، وسيجارة فاخرة، أقنعني بأنه توقف عن التدخين، لا فائدة فيه، كان يردد، مضيعة للمال، وهلاك للصحة والبدن، وصدقته، تماما مثلما صدقت عشرات من حكايات ما قبل النوم التي كان يبرر لي بها لم عليه أن يسافر وحده لأداء مهام عمل عاجلة في الدار البيضاء أو الرباط.
المنافق، الكذاب، أين كان عقلي كل هذه السنين؟
يجب أن تفهمي أن أموالك لعنة تطارد سعادتك، كتبت إليّ جليلة، الجميع يطمع فيك، والقلة تهتم لشأنك، أنت ملف حسابات بنكية متنقل، عليك أن تتيقظي، كثيرون لن يتورعوا عن إيذائك للحصول على أموالك، حاذري من المقربين منك، الطعنة تأتي غالبا من الجانب الذي نعتقد أنه آمن.
صحيح، حسام شاب وسيم ولامع، وهو يصغرني بخمس سنوات، ما الذي يجبره على الارتباط بأرملة عاقر مثلي؟ الحب؟ هراء، لم أر منه ما يفيد بأنه لا يزال مغرما بي كما كان يدعي في بداية تعارفنا، لا يكترث لما أفكر فيه، ولا يبالي بما أشعر به، لا يلاحقني بنظراته، لا يتصل بي كلما غاب ليطمئن علي، لا يسهر قربي عندما أمرض، لا يبتسم لي كلما التفتُّ إليه. لا يمد يديه بلهفة ليلمسني، لا تلمع عيناه، لا ينتبه لما ألبسه، ولا يكترث بما يشغلني، ويغير أحيانا بعضا من طباعي.
لا أحس بأن حضوري أو غيابي يحدث فرقا في حياته.
إيميلات جليلة تفتح عيني على أشياء لم أكن أنتبه إليها، تسريحات شعره الأنيقة، كم مرة يذهب إلى صالون الحلاقة في الأسبوع؟! عطوره، بدلاته المكلفة، والسيارة الجديدة التي يريد شراءها، لم كل هذا؟ لدينا حساب مشترك، أنا من بادر بفتحه، تحذيرات جليلة دفعتني لمراجعة سحوباته، مبالغ كبيرة، لا تهدد وضعيتي المالية، لدي أرصدة خاصة أخرى، ولكن... لم كل هذا التبذير؟ ومن أجل ماذا؟
أنت طيبة أكثر من اللازم، وفي طيبتك مقتلك، كتبت جليلة، حذار من الخديعة.
تتبعت تحركاته، لم أشأ اللجوء إلى تحر خاص، أردت أن أرى بعيني، وأسمع بأذني، رافق زميلته إلى المركز التجاري، وبقي طويلا معها، سيدة في عمري تقريبا، زوجة وأم، على ما يبدو، ما بالها؟ لم تستطع مقاومة بريق عينيه العسليتين؟ خرج مع الكثير من زبونات الشركة، نساء أعمال من كل الأعمار والأشكال، أخذ بعضهن إلى المطعم، ورافق أخريات إلى البنك، وتمشى مع بعضهن حتى موقف السيارات، مازح صاحبة الكشك الذي يقابل مبنى الشركة، وثرثر طويلا مع نادلة المقهى، وابتسم لشرطية، وصافح عددا من النساء في الشارع.
زير نساء، هذا هو الرجل الذي تزوجته.
لا يستطيع أن يمنع نفسه من الالتفات كلما مرت سيدة قربه.
أجبت للمرة الأولى على إيميلات جليلة، ما العمل؟ سألتها، كيف أحافظ على زوجي وبيتي ومالي؟ وأتاني جوابها سريعا، أرقام هواتف، وعنوان إقامة باذخة في الضاحية، تحمل اسم وصفة المرأة التي راسلتني أسابيع دون كلل ولا ملل.
مدام جليلة، عرافة ومنجمة، خبرة، وصيت، وبركة.
ابتسمت بسخرية. ولكنني ذهبت إليها.
للتواصل مع الكاتبة نجاة غفران [email protected]