الملاحظ أن الحدية لم تعد من سمات السياسة الصينية، زالت الحدة عن مشكلة «فرموزا»، أيضا لم تعد هناك مواجهة أيديولوجية بين نظامين متناقضين إلى حد الصدام كما كان الأمر عليه في الماضي، كل ما لم تحصل عليه الصين بالصدام والعنف تصل إليه الآن بالحكمة والتعقل والسياسة الهادئة، عندما بدأ التغير في توجهات الصين قال دنج هسياو بنج الذي يعتبر مهندس الصين الحديثة: «لا يهم لون القط، أسود أو أبيض، المهم أن يأكل الفأر!» مقولة دالة، تشبه مقولات حكماء الصين القدامى، فيها براجماتية؟ نعم، فيها منطق: الغاية تبرر الوسيلة؟ نعم، المهم تقدم الصين، وقد تقدمت بالفعل، المطار مدخل لمن لا يعرف، كل بضائع الدنيا يمكن رؤيتها على أسقف السوق الحرة، وفي أسواق البلد كان الجورب النايلون وحليب الأطفال الغربي حلمًا في يوم ما للنساء في الدول الشيوعية، الآن كل شيء متاح لمن بيده المال، على أية حال تلك تأملات سابقة لأوانها، ما زلنا في المطار.
لا زحام، وصلت بسرعة إلى ضابطة الجوازات، قدمت جوازين، جوازي والآخر يخص زوجتي، مازلت أتصرف كصعيدي، فأوراقها معي، وعند المشي أتقدم وعيناي عليها حتى وإن كنت في الأمام.
تبدأ الضابطة الحسناء إجراءاتها، عند لحظة معينة تتطلع إلى ملامحي، أسمع خبطة الختم بالجواز، لم يستغرق الأمر إلا دقيقة، لم توجه إليَّ أي سؤال، أمام النافذة آلة صغيرة عليها أربعة أزرار لإبداء الرأي في المعاملة، حسن جدا، حسن، سيئ جدا، سيئ، بصراحة ضغطت الزر حسن جدا، وخرجت إلى الصالة التي ننتظر فيها الحقائب، أقصد خرجت أو دخلت إلى الصين.
الإثنين الساعة السابعة
في انتظارنا الأستاذة دينا وأستاذ آخر، كلاهما متخصص في الأدب العربي، كل مستعرب هنا يتخذ اسمًا عربيًا يتعامل به مع أبناء الثقافة التي يدرسها، دينا شابة تقترب من الثلاثين، حاصلة على الدكتوراه في أدبي، وقامت بترجمة روايتي «وقائع حارة الزعفراني»، والتي تصدر أيضا مع روايتي «هاتف المغيب»، هذا هو السبب في توجيه الدعوة إليَّ، في الرحلات البعيدة أحرص على مرافقة زوجتي، أوروبا بالنسبة لنا قريبة، مثل هذه البلاد قد لا يتاح لها رؤيتها، وما دام ذلك في الإمكانية، والظروف المادية تسمح والحمد لله، فلا شيء يعادل الرفقة الطيبة، الموحية، لحظات اللقاء بالمدن تشبه البشر، الانطباع الأول مهم، في الموقف عربة سوداء فاخرة من طراز أمريكي شهير، تتبع الأكاديمية، حرصت دينا على أن تشرح لنا كل ما نمر به، أعرفها جيدًا من خلال الرسائل المتبادلة خلال نحو عام عبر شبكة الاتصالات «إنترنت»، تعرفت على دقتها الشديدة وحرصها على إنجاح الزيارة، فالأدباء العرب من النادر أن يزوروا الصين، واتحادات الكتاب وأيضا وزارات الثقافة العربية ترسل وجوهًا غير معروفة، عندما يكون للكاتب مؤلفات مترجمة يصبح التفاهم أعمق، شانغهاي تبدو منذ اللحظة الأولى مدينة عملاقة، مستطيلة إلى أعلى مثل نيويورك، إحدى سمات المدن المعولمة الأبراج، هناك تنافس على إقامة الأبراج الأشد ارتفاعًا، المرجعية بنيويورك بالطبع، عاصمة الرأسمالية العالمية، بكين تبدو مختلفة، لا تستطيل إلى أعلى، مبانيها عادية الارتفاع، لكن تتجسد فيها أحدث وسائل العمارة، ما بعد الحداثة، الزجاج والمعدن، تبدو المدينة وكأنها بنيت كلها في وقت واحد مثل مدن الخليج، بل هكذا تبدو الصين كلها باستثناء المواقع الأثرية، مررنا بمحطة القطار، سوفيتية المعمار، فوقها ثلاث كلمات بالصينية، حمراء اللون، قالت دينا: إن هذا خط الرئيس ماو، كتب اسم المحطة على الورق، وتم تكبيره، عندي أسئلة كثيرة عن ماو وعن النظام الشيوعي وما يجري، لكننا ما زلنا في البداية، والوقت ليس مناسبًا، الفندق حديث جدًا، مريح، قريب من مبنى الأكاديمية ومن الميدان السماوي الشهير، بعد الاستقرار المؤقت قالت دينا إنها ستصحبنا إلى مطعم إسلامي للعشاء، سألتها عما إذا كان المطعم حديثًا، قالت إنه كذلك، لكن المطاعم الإسلامية موجودة منذ تأسيس الدولة، لم يمنع النظام الشيوعي المسلمين الذين حاربوا مع ماو من بناء المساجد وإقامة شعائرهم، تبدو المساجد متأثرة بالعمارة الصينية، لكن اللون الأخضر غالب، على مدخل المطعم كتب باللغة العربية «مطعم إسلامي»، في بكين عدد كبير منها، وتلك تقدم الطعام الصيني الشهير لكن بدون لحم الخنزير.