للمرة الأولى منذ عرفته، رأيت زوجي يبكي، لم يلتفت إلي، لم يشعر بوجودي، مسح دموعه بكميه كطفل صغير، وضرب بقبضته مسند الأريكة وعيناه لا تحيدان عن التليفزيون الذي كان صوته يكسر الشقة.
بقيت واقفة لحظات طويلة أمام غرفة الجلوس، أتشبث بأكياس الخضر والفاكهة التي أحملها، وأغالب رغبة عارمة في تركها تنزلق من بين ذراعي.
كان يبكي، ويتابع أطوار مباراة كرة قدم، لم ينتبه لوجودي أبدًا.
زممت شفتي بحنق، واستدرت نحو المطبخ، أزحت شرشف المائدة بحرص، ووضعت الأكياس فوقها، وخلعت سترتي وكومتها جانبًا، على الأرضية.
لمحت في حوض الغسيل بعض الآنية المتسخة، فنجان قهوة وصحن، ساندويتش وملعقة وسكينا وبقايا مرق في طنجرة.
طبعًا، لم يكلف نفسه تنظيف شيء كالعادة.
وقفت أمام مرآة الممر، وتطلعت إلى نفسي بإحباط.
اليوم كان صعبًا، ضغط كبير في الشغل، لم تكلف الإدارة أحدًا بشغل مكان زميلي الذي خرج في إجازة. وجدت نفسي أعالج الملفات المحالة على مكتبه الفارغ، كان بإمكاني ألا أفعل شيئًا من ذلك، لكن منظر الناس الواقفين عند العتبة أجبرني على التدخل، ما ذنبهم لكي تتعطل مصالحهم أربعة أسابيع كاملة؟
صرخ المذيع في التليفزيون، وأطلق زوجي سيلًا من الشتائم الحانقة.
اضطررت للمرور على السوق في طريق عودتي، زحمة الدكاكين، وصياح الباعة، وضجيج المواصلات، وقلة صبر المارة أتت على ما تبقى من قواي، الله وحده يعلم كيف وصلت إلى باب العمارة، تلمست خصلاتي المصبوغة بلون غريب، وخلعت حذائي، واتجهت نحو الحمام، صوت المذيع لا يزال يكسر الشقة، ولكمات زوجي المنفعلة تهوي على المسند الذي يتكئ عليه.
لم أنتبه -حين دفعت بظهري باب العمارة الموصد- إلى الورقة الملصقة على الحائط جنبه، وكيف أفعل، وكل همي وقتها الوصول إلى الشقة، والتخلص من الحمل الذي أثقل ذراعي؟
انتباه! طلاء الباب طري» »
قرأت الملاحظة بعد فوات الأوان، تلطخ شعري وسترتي بصباغة خضراء غامقة، وتملكني قهر عميق.
منظره وهو ممدد على الأريكة أمام مباراته الملعونة زاد من حنقي، ودموعه... رباه! إنها أول مرة في حياتي أراها! لم يبك عندما أجرى والده عملية صعبة، لم يبك حين أرجأ مديره الترقية التي كان ينتظرها، لم يبك حين فقدنا جنيننا الثاني، ولم يبك عندما علم بأن فرصي في الحمل مرة أخرى ضئيلة جدًا.
لم يبك عندما رحل أخوه إلى أميركا منذ أيام.
ولم يبك حين رأى نتائج تحاليل والده الأخيرة.
أي قلب يملك هذا الرجل؟
نظفت شعري جيدًا، وحضرت إبريق شاي، جلست أرشفه وحدي في المطبخ، أكياس مشترياتي مازالت حيثُ وضعتها، سترتي مرمية أرضا، وحوض الغسيل يضيق بما فيه من أوان قذرة، رفعت عيني إلى الساعة المعلقة فوق جهاز التليفزيون الصغير الذي أضعه في المطبخ، عما قريب سيحين موعد المسلسل الأميركي، إن أسرعت قليلا سأتمكن من تنظيف المكان وتوضيب المشتريات في الثلاجة قبل بدء الحلقة، ما عليّ سوى إغلاق الباب لأستمتع ببرنامجي كما يستمتع ببرنامجه.
لم أتحرك من مكاني، شعرت أكثر من أي وقت مضى بأن رجال المسلسل -الذين يشاطرون زوجاتهم أعباء البيت، ويهدونهن باقات الورد، ويستشيرونهن قبل اتخاذ أي قرار، وينصتون لهن، ويتأثرون بما يحدث لهن- مخلوقات خيالية لا وجود لها في عالم الواقع، أو على الأقل، في عالمي أنا.
الرجل الذي تزوجته ينتظر أن أحضر له طعامه، وأغسل ثيابه، وأرتب بيته، وأشتري حاجياته، ولا يقبل أبدًا أن أناقشه في قرار اتخذه، أو أحادثه في موضوع لا يروق له، هذا الرجل لا يقلق عندما يراني ساهمة، ولا يتأثر حين يراني ألهث بين شغلي وشؤون المطبخ، ولا ينزعج حين أبدو له مريضة، ولا يذرف دمعة واحدة عندما تتكالب علينا المصائب والهموم، ولكنه يبكي كطفل صغير حين لا تعجبه نتيجة مباراة الكرة التي يتابعها بتبجيل.
أنهيت إبريق الشاي، ونهضت أغسل الآنية بصمت.
نحيب المذيع في التليفزيون يتعالى، فريق زوجي المفضل خسر الماتش ونزل إلى الدرجة الثانية، دموع زوجي تنهمر، وإن كنت لا أراها، وقلبي ينزف.