الحاج

تعالى صراخ زوجة ابنه، تنهد وأشاح بوجهه نحو النافذة، ألا تتعب أبدًا؟ «رحال» لا يزال واقفًا أمام العمارة القديمة، مرت نصف ساعة، وربما أكثر، على تسمره هناك، ارتفع جنريك نهاية البرنامج الإخباري الذي يتابعه، هز حاجبيه بدهشة، ونظر إلى ساعته، الحادية عشرة، غريب، لم يشعر بمرور الوقت، التفت ثانية إلى النافذة، معنى هذا أن رحال انتظر أكثر من أربعين دقيقة، صبور جدًّا هذا العجوز...

«هل تريد أن تجنني ؟ أكلت ما يكفي من الكعك، قم احضر لي ما طلبت، وإلا سأكسر حاسوبك على دماغك ! ».

حسيبة تزعق في وجه الولد..

قلب المحطة، وغير وضعية جسده الذي تعب من الاستلقاء، توقف عند نشرة الطقس في محطة وطنية، وتمتم بدعاء خفيض، وهو يسمع الأخبار السيئة: لا تساقطات مطرية في الأفق، ليرحم الله البلد، الزرع ييبس والماشية تموت، والبشر يتضاعفون يومًا بعد يوم.

« ألا تسمع ؟ أنا أنتظر...».

هذه المرأة لا تخجل.. صوتها وصل إلى آخر الشارع..

زفر بنفاد صبر، ونهض.. التفت إلى النافذة، رحال يحدث أحد سكان البناية، ويشير إلى مدخل بيته، زوجته تشرئب بعنقها من فوق كرسيها الذي لم تعد تغادره، امرأة تعيسة الحظ، لم تكن تشكو من شيء. فاجأتها نوبة ضغط حادة نقلت إثرها إلى المستشفى، وعادت إلى دارها على كرسي متحرك.. ساقاها مشلولتان.

«اصمتي بحق الله، فضحتِنا، ماذا تريدين؟»، سأل حسيبة وهو يرفع جلبابه ليتفادى سيل المياه التي غطت أرضية الطابق السفلي.

«ما هذا الفيضان ؟» استنكر، ومدت يدها إلى المكنسة: «منذ يومين لم أنظف الدار.. بح صوتي وأنا أطلب من هذا العنيد أن يشتري لي  مسحوق التنظيف».

 لم يحرك الولد ساكنًا.. بدا غارقًا في تأمل شاشة جهازه الصغير،

خرج وخطا بحذر في ممر الحي الذي غمرته المياه السائلة من تحت الباب، سلم على رحال ونادى أحد صبية الجيران..

«خذ، احضر لخالتك حسيبة علبة مسحوق تنظيف، هيا، في الحال !»..

التفت إلى رحال وسأله ما خطبه؟ لماذا يقف بالساعات أمام البناية؟

ضحك الرجل بمرارة.. ألا يعرف حقًّا ؟ «الماء يا صاحبي، الماء.. قعدت امرأتي وصار الدور عليَّ...».

هزَّ مخاطبه رأسه بصمت..

قبل أن تصاب بالشلل، كانت زوجة رحال تقضي يومها رائحة وقادمة بدلاء الماء التي تملؤها من منزل إحدى أرامل الحي.. رحال رجل فقير يعتاش على القليل الذي يجنيه من بيع الأعشاب الخضراء في السوق.. منزله الطيني المحشور بين بنايات الحي الإسمنتية غير مجهز بالماء ولا بالكهرباء.. البيت أصلاً لا يوجد في ملكيته، أحد معارفه القرويين تركه يسكن فيه، والرجل على ما يبدو يرفض أن يمس رحال طوبة من طوب داره، فما بالك بتجهيزها بالماء والكهرباء وتسجيل الأوراق باسمه ؟

« البشر لا يرحمون يا حاج.. كل الجيران يتنصلون من ملء دلائي، كأنني سأسطو على بيوتهم...».

«والأرملة ؟»

«كادت المسكينة تولول عندما سمعتني أطرق بابها، ومعها حق، ألسنة السوء بالمرصاد...».

تنهد بحرقة..

جاء الصبي بالفكة، وناوله الحاج بعضها، وأمره بأن يمد المسحوق لحسيبة.

«أحد المستأجرين الجدد في العمارة، كثر الله خيره، قبل أن يملأ لي الدلاء، ولكنه تأخر...».

سالت المياه الممزوجة برغوة مسحوق التنظيف بغزارة من تحت باب دار الحاج، وغمرت الطريق تمامًا، واضطر الرجلان إلى أن يرفعا جلبابيهما، وتملكت الحاج رغبة عارمة في لي عنق زوجة ابنه.

أحرجته اللعينة..

نظر رحال للمياه المجروفة تحت قدميه، والتفت إلى زوجته التي تنتظر الدلاء في مدخل داره، وتمتم بنبرة مكسورة: «لا حول ولا قوة إلا بالله»، وانغرست الجملة كالسكين في صدر الحاج.

 لماذا توقف قرب الرجل ؟ لماذا خرج أصلاً ؟ ما شأنه بما تفعله زوجة ابنه ؟

«الدلاء يا حاج» قال شاب خرج من العمارة وفي يده الحمل الثقيل..

«عفوًا يا ابني، لم أزر الديار المقدسة بعد»، شرح رحال، ولكن الفتى قاطعه وهو يسبقه بدلوين مليئين عن آخرهما بالماء : «أنا الذي يجب أن يعتذر، تركتك تنتظر كل هذا الوقت، تعطل الموقد وانشغلت بإصلاحه وغفلت عن دلائك...».

وقف الحاج يتفرج على المشهد بصمت..

سيرى هذا الفتى كم ستكلفه طيبته، خمسة دلاء في الصباح، ومثلها في المساء.. ميزانية يومية سيدفعها من جيبه.. سيرى..

ابتعد وغاصت قدماه في السيل المتدفق من عتبة داره.