بضعة أيام بعد موت العمّة إيجا، وصلتني صُرّة معقودة بإحكام، وملفوفة في كيس بلاستيكي أسود، أتى بها أحد سكان قريتها، قال إنها تركتها لي عند والدته، وشكا لي العناء الذي كابده ليصل إليّ، الطريق بعيدة والسفر مكلّف وهو مريض وأمّه تلحّ عليه منذ أن وُري جثمان العمّة الثرية، لكي يأتيني بالأمانة "تزورها كل ليلة وتسأل عن الصُرّة، هل وصلتك أم لا؟!"
ضيّفت الرجل ونقدته بعض المال.
غادر داري سعيدًا، راضيًا ومعافى.
وبقيت ذكرى العمّة إيجا، وصُرّتها، ورائحة الياسمين والحبق التي تلف الخرقة.
رائحتها المفضلة.
بدت منهكة جدًا في آخر زيارة قامت بها إليّ، منذ عام، شعرت بوخز أليم في قلبها، كان واضحًا أنها سترحل قريبًا، ضمرت وما عاد يبدو فيها غير عينيها الزرقاوين الفاتحتين، كانتا تلمعان وهما تتحركان في كل الاتجاهات، تتكلمان، تبتسمان، وتبكيان.
كانت حزينة، لم تمكث عندي طويلا، جمعت أغراضها في منتصف الأسبوع الثاني وقالت إن رفيق عمرها يتقلّب في قبره، وينتظرها، كلام لم يُخفني؛ لأنها كثيرًا ما رددته، لم أحاول أن أناقشها، العمّة إيجا لا تستمع لأحد، أوصلتها بنفسي إلى المحطّة، وعانقتها.
سألتني إن كانت أختي قد سامحتها، وبكيت وأنا أحضنها ثانية، بكيت بشدة.
ليس من عادتها أن تطلب السماح، لا بد أنها النهاية حقًا.
منذ عامين ـ وربما أكثر ـ أتت لزيارتي أثناء مقام أختي الصغرى عندي، وجدت ذات صباح قنينة عطرها في الحمام، فملأت البانيو وسكبتها كلها فيه، وأخذت حماما معطرا، صفاء كادت تفقد صوابها، العطر كلّفها ثلاثة أشهر ادخار، ثروة بالنسبة لموظفة صغيرة في بداية مشوارها المهني، العمّة لم تقصد، حاولت أن أشرح لها، أنت تعرفينها، تحب الاعتناء بنفسها، كلامي لم يُجد نفعًا، انفجرت أختي في وجه ضيفتي، ورفعت العمّة عصاها وهوت بها -بكل ما أوتيت من قوة- على رأس صفاء، ولحسن الحظ.. لم تكن قوتها شيئا يذكر، لا توجد في عائلتنا فتيات قليلات التربية يرفعن أصواتهن على من هن أكبر منهن، صرخت في صفاء، ودفعت أختي إلى المطبخ أضع كل ما وجدته من ثلج في البراد على رأسها، لم ينفجر الدم، ولكن أعلى الجبين ازرقّ، رحلت صفاء في اليوم التالي، وتصرّفت العمة ما تبقى من وقت مقامها عندي وكأن شيئا لم يحدث!
لم يستلطفها يوما أحد في العائلة، اعتبرها الجميع دخيلة، تزوّجها أصغر أعمام والدي، دوّخه جمالها، ولم يرد أن يستمع لأحد، أمها بربرية من الجبال الوسطى، وأبوها ينحدر من الغزاة البرتغال الذين احتلوا فترات طويلة سواحل الغرب، ورثت عنه بشرته الشاحبة وعينيه الفيروزيتين، ولم يكرمها الله بأولاد، ولم يحاول زوجها أن يجرّب حظه مع أخرى.
لم أحتج لفتح الصُرّة لأعرف ما بداخلها، خمّنت، مرآة العمّة، رفيقتها الأثيرة.
تتطلع إليها بالساعات، تتنهّد، تشرد، تبتسم، تعبس، منذ أن وعيت وأنا أراها في يدها، تتنحّى عنّا، وتسحبها من مخبئها الدافئ في صدرها، وتغرق في تأمل قسماتها، نساء العائلة يسخرن منها «تريد أن تبقى شابة للأبد! ترى نفسها جميلة! تظن نفسها الوحيدة التي تملك عيونًا ملوّنة! تتصرف كالصبية! مراهقة عجوز، مخرفة، مجنونة، عابثة«.
سألتها في فترات مختلفة من حياتي عن سر مرآتها، ماذا ترى فيها؟
«وما الذي نراه في المرايا غير أنفسنا؟» كان جوابها الدائم «أنا أعد تجاعيدي، وأحسب عمري...»
كبرت، مات العديد من أفراد عائلتي، وبقيت العمة إيجا صامدة، رغم ضعف جسدها المثقل بعقوده الثمانية، لم تعد تزور غيري، هي التي كانت تقضي وقتها في التنقل بين بيوت الأقرباء، وظلّت مرآتها ترافقها في كل غدوة وترحال.
«أرى عمري في وجهي، لا شيء يدوم، لا شيء، تذكري هذا...»
أهز رأسي ولا أفكر بجدّية في ما تقوله، همومي اليومية تشغلني.
«الدنيا حلم، بالأمس كانت بشرتي نقيّة كالحليب، والآن... كلها خطوط وبثور ونقط وسخة أراها جيدا برغم الضبابة التي تغلف عيني، بالأمس فقط... والآن... آآآخ... كل شيء فان!»
وعدتني بأن تتركها لي.
«سترين فيها حياتك، ستتفرجين، كما تفرجت أنا، وأمي، ولا أدري من أيضًا... ستبكين، وستضحكين، وستعرفين أن الوقت قصير، قصير...»
مرآتها في يدي، دائرة مبطنة بغلاف نحاسي ثقيل، محيت أجزاء منها، تعبق برائحة الياسمين والحبق... والموت.