دخل البيت مزمجرًا، يتطاير دخان الشرر من عينيه
ومن فتحات أنفه، كأنه ثور هائج انتهى لتوه من مصارعة ثيران، أشحت بوجهي عنه
متجاهلة إياه رغم التقاء عيوننا، وركزت عينيَّ على الملابس المكدسة أمامي على هيئة
جبل أحاول فرز قصيرها من طويلها، صرخ بوجهي قائلا: «ألا تستحين يا امرأة؟ ما
هذا؟»، وأراني ورقة مكتوبًا عليها: «رجل للإهداء... مع خالص احترامي»، لم أنبس
بكلمة وأخذت أتصفح وجهه، وحركاته الصارمة لعلّي أجد ما يشدني إليه من جديد،
ويدفعني لأغفر له خطأه، كلامه كطنطنة نحل تخترق أذنيّ مشوشة، وكزوبعة إعصار، صدى
صوته يبتلع معه سكون الغرفة، صحت به: «كفى لقد خرمت لي طبل أذنيَّ! أتنغمسون في
الأخطاء وتأتون بعدها تصيحون لتخرسونا عن الكلام، وتفرضوا علينا أن نسامح!»
وتحجّرت بعدها نظراتي، سوى نبض عروقي أحسه يتنفس ويرغب في تقمص جسد آدمي لينقض
عليه، ولينهش من على جسده ثوب الخيانة الأسود الذي يرتديه، وسألته غفلة: «كيف ومتى
تزوجتها؟»، «لقد تزوجتها زواج المسيار وليس ...»، وقاطعته: «قل زواج متعة وقضاء
حاجة.. ما هذا؟ هل الزواج أصبح صيحات كل زمن نسمع
فيه عن موضة زواج جديدة، فمن زواج متعة إلى عرفي والآن مسيار، ثانيًا:
لماذا لا تجاوبني عن سؤالي بدقة، متى تزوجتها؟».. «منذ ستة أشهر..»، وآه، لم أحس
بأسفي على نفسي بقدر ما أحسست بأسفي وحزني على ابنة عمي، نعم زوجة المسيار هذه هي
ابنة عم لي، كتب عليها قبل شهور الزواج من عجوز ثمانيني، فكان من حظها أن مات ليلة
عرسها، بعد أن أقنعه بعض الشباب بتناول حبة السعادة الزرقاء، ليكون كحصان جامح
مبهر، وليحس أنه ما زال في شرخ الصبا والشباب، وأعتقد أن هذه الحبة ذات السحر
الخفي قد تناولها مع أدويته المعتاد تناولها وهو في هذه السن، فكان أن أصيب بسكتة
قلبية، فأخذت الأرملة الشابة بعد ذلك عندي لعلها تكتشف حياة أخرى في المدينة من
غير قريتها الصغيرة، لكن وجدت هنا كذلك هذا المتصابي زوجي، فاستغل حداثة سنها،
وحيرتها المراهقة من ورائي ليرغمها على زواج المسيار، ولولا حاسة الشم التي
أملكها، والتي أطلقها لأميال، لما شممت رائحة الطبخة التي يطبخها هذا العجوز الخمس
والخمسيني، طيب لنقل الشاب الخمس والخمسيني من ورائي، ولأعلمه بوصول خبر زواجه
بابنة عمي إليَّ، كتبت له تلك الورقة إياها وقمت بإلصاقها خلف معطفه ليراها الكل
ولأعرضه لسخرية موظفيه.. رفع رأسه من جديد إليَّ قائلاً: «أردتها أن تخدمنا طوال
العمر فاخترت أرخص السبل، وسلكت أسهل الطرق، ألم تكوني يا امرأة تنادين دائمًا
بخادمة بعد أن غادرنا الأطفال».. عبثًا هذا المتصابي يحاول إقناعي غير متدارك
لإحساسي المشبع بطعم القطران، وسهوت أستعرض تضحياتي معه إلى أن وصل إلى ما هو عليه
اليوم من منصب، هل كلما ازداد الرجل منصبًا رافق ذلك رغبته في زوجة ثانية وثالثة
ورابعة.. والزوجة الأولى انتهت مهمتها وأحيلت إلى التقاعد، أو لنقل وقت خيانتها قد
حان، فلتدق الطبول، ولتهتز عروش مملكتها، لأنها لم تعد تنفع، بل أين هي حقوق هذه
الفتاة التي زوجت عن طريق المسيار؟ أين نفقتها، وحقها الشرعي في كل شيء؟ لو كانت
فتاة راشدة لقلت فلتتحمل بيع نفسها.. لكن قاصر استغلت من طرف أبيها، وتستغل الآن
من طرف زوجي فلا؟ ابتلعت ريقي وتركت الغرفة له، أفكر في حل ينصفني أنا وابنة عمي
في مشاركتها لي في زوجي، جبهتي لم تهدأ كأنها مستودع أفكار سينفجر بعد قليل، سحقًا
ستعود لي كل الأمراض من تلبك المعدة وانتفاخها إلى المصران «الأعوج» الشبيه
بإعوجاج زوجي وأوجاعه، لقد انتهيت لتوي من وصفة الطبيب بأكل المسلوق فقط، وهذا
المتصابي لن يتركني لأستقر في صحتي بأفعاله، فلو قلت له «طلقها».. فما أدراني أنه
سيلهث خلف أخرى، ولو قلت له «لتبقِ علينا نحن الاثنتين»، فلن تسلم من غيرتي كامرأة
تجاوزت الأربعين من عمري في أن تغار من طفلة
شابة في عمر بناتها، الانسحاب قرار الأذكياء أحيانًا، فــ: «رجل للإهداء...
مع خالص احترامي»، لكن قبل ذلك عليه أن يقدم عقد زواجه للمحكمة ليصبح رسميًّا،
وأقول لتسعد ابنة عمي بالذئب زوجي في ثوب الحمل الوديع الذي يلبسه، فما أتاني منه
سيصيبها يومًا لا محالة، لكن مهلاً يا امرأة ألم... ماذا ألم؟...انتظرني وسنكمل
الكلام لاحقًا