العيش والملح


يصحو وجهي على وسادتك، مشرقا بوجودك، منيرا في مدار قربك، بضياء هو منك.

يصحو وجودي بجوار وجودك، وينام مطمئنا إلى وجودك، لكم تعذبت بدونك، حتى انضممت إلى فضائك فلمحت في كحل عينيك نجما، أو كوكبا دريا.

أصحو إلى مائدتك، يتفتت قلبي حبا كالخبز بين يديك، يداك ذرات ملح على خبزي، عيناك حديث طويل وبُن ثقيل، والصمت زقزقات صبح مبكر.

الحب الطويل المعتق، القديم كلوحة رائعة، كقصيدة لم تكتشف لشاعر عظيم، الحب المستمر كالوجود، كتتابع الليل والنهار والضربات المنتظمة، لموج البحر على الصخر.

- نحن –أنا وأنت- ذلك الحب القديم، المجرب، كوصفة لا تخيب.

«العيش» كلمة تعني شيئين: «الخبز»، و«الحياة»،  وأنتِ لي خبز الحياة. والملح هو المادة الضرورية التي لا «عيش» بدونها، ولا مذاق لشيء، وأنا لا عيش  لي بدونك، ولا طعم لشيء.

لقد أكلنا معا وجبة الملح والخبز، أو العيش والملح آلاف الأيام، فمن خانهما لا يستحق العيش ولا الملح، وذرة ملح واحدة!

تردين على أسئلة لم أوجهها، تعلقين على كلام لم أقله، ولكنك سمعتِ، سمعتِ كل شيء. حين أحتار تعطينني النصيحة دون أن أسألك، حين أحتاج شايا أو قهوة، أو قبلة أو كلمة طيبة تأتين لي بما أردت، دون أن أعي أني أريد، كأنك دعاء مستجاب لي، يتردد يوميا بين السماوات والأرض.

بل كأنك زهرية فيها من القرنفل ألوانه الأربعة: (الأحمر والأبيض والأصفر والوردي)، ومن الورد ألوانه الأربعة: (الأحمر والأبيض والأصفر والوردي)، وفيها من الزنبق الأبيض ذي العطر المسكر أربعة، ومن كل زهرة عطرية زوجان.

أنت التي منحت صحبتنا عطرها، وأدخلت السرور على قلب الحجر: الأرض والسقف والجدران.

وأنت لي التي حين تضحك يكون للكون معنى،  ويتضح أن الجراح لم تنزف عبثا، حتى الذراع المبتورة ضاعت في حرب مجيدة منتصرة.

الملح من شفتيك أشهى من شهد الملكة،  خبزك وملحك يكفيان؛ لأنك أنتِ العيش والملح، وأنت تزدادين كل يوم طيبا في المذاق، وخبزك دوما صابح يحمل عطر بكارة الخروج للتو من الفرن.

فبوركت من خبز تفتت بين يدي من آلاف الأيام، ولم يزل صابحا كندى الورد في حديقة بيتنا، وبوركت من قلب طيب يتفجر في قفص العظم كنبع ساخن يشفي الداء العضال، ويجدد في القلب العليل الأمل.

دمت ودام العيش والملح، ودامت العشرة والألفة، والمودة والرحمة.

لا تنشغلي عني إلا بي، فأنا أناني هذا الصباح، كفي عن صب الشاي وصبي عينيك في عيني. قولي دون أن تنطقي، ودعي أصابعك تؤكد وجهة نظرك.

كوني لي.. تماما.. في هذا الصباح. نحن والعيش والملح والشاي والأصابع المشتبكة. لقد مر على زواجنا... مر على زواجنا ما مر، لن أعد الأيام، فكل صباح يحق لنا أن نحتفل.

وفي المساء أيضا، دعي عينيك في صحبة عينيّ، لا تنتبهي إلى التلفاز، فالنور الذي يخرج منه في هذه الأيام الشتائية برد وصقيع.

اعتبريه عيد زواجنا.. من حقنا. كل يوم هو عيد لنا. وانتبهي لي وحدي، حتى أتم هذه الأغنية:

وجهك برج حمام يطمئن به الطير القلق

صدرك حديقة مشمسة دائمة الخضرة

مفتوحة دوما لكل كرات أطفال الوجود

كفاك هديتان أبديتان لا ينفد فيهما أبدا الكرم والمفاجأة

قدماك أجمل رحلة قطعتها الرحمة من منجد إلى مستغيث

لمستك بلسم القلوب

ولا خبز ولا ملح إلا بك

ولا محبوبة إلا أنت.