مدرسة ملحم بركات... أستاذ واحد من دون تلاميذ!
لا يشبهه أحد، ولا يشبه أحداً. هكذا هو ملحم بركات، يغنّي على ليلاه ويحصد نجاحاته وحيداً من دون «جميل» (منّة) من أحد... يلحّن ويغني ويبهر جمهوره مرّة بعد مرّة، من دون أن يدخل كل هذه الألاعيب التي تضفي شيئاً من البهجة على وجه «المطرب» العصري في واحدة من المغامرات (الكليبية) التي يدخلونها بلباس الفرسان وهم ليسوا بفرسان، ومرّة عشاقاً وليس لهم من ضروب العشق إلا ترداد لكلمات كتبها تجّار الكلام وما أكثرهم، ومرّات معشوقين بأوامر من المخرج، ومرّات يرتدون وجه الحزن فيثيرون الشفقة.
ملحم سيّد مسرحه، يغنّي ويغنّي حتى تنتهي حصة الغناء، برغبة من الجمهور الذي يبحث عن جديد ملحم، عبر الراديو أو بالذهاب إلى الأماكن التي يغنّي فيها، من ملاهٍ أو مسارح أو «قلاع»... ينتظرونه في إطلالاته التلفزيونية، وإن كانت قليلة، لكنها ممتعة من نواحٍ عدّة، ليصبح نجم البرامج المنوّعة،
ولا يوجد من ينافسه إلا واحد وهو زياد الرحباني كما يقول ملحم بركات.
أغنيته الجديدة (بدك مليون سنة لتعرف أنا مين) وأغنية أخرى بعنوان (صاير كذاب اللي بحبه صاير كذاب)، أغنيتان خالصتان وجاهزتان للحفظ من جمهوره المنتشر في كل البلاد العربية، المحب للفن اللبناني المتميّز، وخاصة إذا كان المصدر ملحم بركات. نراه في تونس أو في الأردن أو في سوريا حاضراً بكل مكوّناته الفنية ليسمع صوته (الملكي) متمترساً خلف الحانة المنسابة المطواعة له، يحرّكها على سجيته كما في أغنيته (على بابي واقف قمرين) حيث أعاد تجربة المطربين القدامى باستحضار (السلطنة) بأسلوب دفع بالجمهور إلى انتظار هذه الردّة، مردّداً معه (ووواو ووواو واه). لعلّها تبدو فكاهية وهي تحتمل هذا، إلا أن من الناحية الموسيقية هي حالة طربية صوفية، أو شبيهة إلى حدّ بموسيقى الجاز في لحظات يقترب فيها الفنان من أعلى نقطة في الإحساس لتكتمل العناصر المكوّنة للمتعة: الكلمة واللحن والعازفون والجمهور والمكان تتجمّع في نبرة خالصة، موحّدة ومبهجة.
الأغاني الجديدة لملحم بركات امتداد لمدرسة هو ناظرها ومديرها وأستاذها وتلميذها... ليس هناك من مطرب لبناني أو عربي يستخدم أسلوب بركات في المغنى. ولم ينقل تجربته الناجحة إلى الأجيال التي تربّت على صوته، كما حصل مع وديع الصافي أو عبد الحليم، أو إلى أجيال جاءت بعده كالوسوف وراغب علامة أو آخرين، وهنا لا بدّ من السؤال:
هل هناك صعوبة في تقليد هذا السهل الممتنع من الأغاني؟
الجواب على ما يبدو نعم، قد يغنّي مطربو السهرات بعضاً من أغانيه لإمتاع الساهرين الذين يعتمدون على أنفسهم في الدرجة الأولى، فحين تأتي أغنية لملحم بركات يغنّونها بأنفسهم على اعتبار أنها مُلك لهم، وهنا تأتي ميزة أخرى لهذا المطرب (الحر)، فهو غير خاضع لشروط شركات الإنتاج، ولا ينتظر التلميع من وسائل الإعلام المدفوع، ولا يمتثل لشروط السوق في توقيت الأغنية، إنما يقدّم أعماله كما يحب أن يسمعها ويراها هو ذاته، لتأتي الجملة اللحنية مشبعة إن كانت شرقية كما في أغنيته الجديدة
(بدك مليون سنة) أم غربية كما في أغنية (ما يهمنيش).. يكسرها بالإيقاع الشرقي وبحركة مسرحية تبعث على الإنسجام. ملحم بركات شريك في عصر النهضة للأغنية اللبنانية. شارك الرحابنة وانسحب قبل أن تلبسه «اللعنة» الرحبانية التي تبقي الكبار صغاراً خارج مسرحهم. غنّى ومثّل وتجرّأ على «الجنون» في إطار التجريب الفني. تسلّل بهدوء إلى المقدّمة، خرج من معارك العشق جريحاً لكنه سرعان ما تعافى، ليستغلّ تلك المرحلة التي غنّاها بصوته المجروح كعاشق يصرخ ألم النكران من حبيب (جاهل) لا يعرف أصول العشق.
أغاني ملحم الجديدة والقديمة لها نكهة المواسم، تأتي كما الكرز في الصيف والفريز في الشتاء، وشقائق النعمان في الربيع، ويهدر صوته أحياناً كنهر جبلي خبّأه الصيف بين أغصان الجوز...
أكتب لصوت ملحم بركات لأنه يذكّرني بأهمية حاسة السمع في زمن الطرشان.
هل ترك زياد الرحباني فيروز (لتعتزل) الغناء المسرحي وحدها؟
لم يظهر زياد الرحباني في الحفلتين الأخيرتين لفيروز، بل اكتفى بتهريب عدد كبير من مقطوعاته الموسيقية ومن كلماته وتوزيعاته، ومن روحه التي وسمت جيلاً يثق بهذا الفنان الذي جعل المفاجآت جزءاً من أسلوبه الفني والحياتي. تراه في مطعم صغير في أبوظبي يعزف على البيانو، وإلى جانبه مجموعة صغيرة من الموسيقيين، تراه على مسرح الأونيسكو في بيروت أو باريس أو كما رأيناه في حفله الأخير في سوريا مع عدد كبير من الموسيقيين، يمارس أعلى درجات الإحتفال إلى جانب جمهور يسامحه ويسانده، ويقف خلفه مقتنعاً بأن زياد يحقّ له ما لا يحقّ لغيره.
يتخلّف عن حضور البروفات ليترك الموسيقيين ينتظرون ساعات ولا يأتي... زياد إن أتى ولو متأخّراً يبعث فيهم الحيوية من جديد، وما أن تضرب أصابعه آلة البيانو حتى تنصاع جيوش الأصابع المنتظرة إلى صوت النغمة المتسلّلة إلى أرواح المستمعين... مرّات ومرّات أُلغيت حفلات أُعلن عنها لزياد وكان الجمهور قد وصل إلى المكان، ليتّصل زياد ويلغي الحفل بحجج باتت تشكّل خطراً على مصداقيته... لكنه زياد الرحباني!
هذا المُهرب دخل بصوت فيروز، و«تعملق» حول شجرتها الممتدّة لتصل إلى النجوم...يوم رحل عاصي أو يوم أقعده المرض وأبقاه متفرّجاً، خرج زياد من بين الشظايا المنتشرة في شوارع بيروت بأغنية «سألوني الناس» الموجّهة إلى عاصي بصوت فيروز، فكانت الفاصلة التي أولت هذا الشرعي، ابن عاصي ليحمل راية أبيه إلى جانب الرحابنة، جاهدين للدفاع عن عرش الأغنية اللبنانية أو الإنسانية التي تحاكي أشياء لم نكن لنوليها تلك الأهمية...
فالبوسطة (الباص) كانت تنقلنا من وإلى قرانا من دون الدخول في أي من عناصر جمالها، ولم يكن هناك متّسع لقصص حب قد تنشأ في تلك البوسطة، تنطلق باكراً من قرى الجبل أو جنوب لبنان أو شماله، محمّلة بأحلام الفلاّحين والفقراء، وهم زبائنها في الدرجة الأولى، لنكتشف أن بوسطة زياد عندما صعدت بنا فيروز إليها مختلفة تماماً. كانت مقدّمات الموسيقى التي يهرّبها زياد إلى عشاق صوت فيروز القدامى أو للجيل المستكشف أهمية أن تكون الموسيقى صورة تراها العين من زوايا مختلفة، أو مركباً يبحر بكل واحد منّا إلى حيث يشاء، كما في موسيقى (أبو علي) أو ميس الريم
أو قمح أو ديار بكر وغيرها الكثير.
لا يسع الكلام التعبير عن إنجازات زياد عاصي الرحباني، يبدو فوضوياً لكنه الأكثر تنظيماً... يبدو ملتزماً ويترك المواعيد تطول لتصبح ذكرى... يطلق مواقفه السياسية ليقلق أصدقاءه وأعداءه، كيف يمكن أن يتخلّى عنه الشعب المسكين الذي أنشد له، لا بل جعل (للمكنسة) أغنية، في صبحي الجيز تحاكي فيروز رفاق
زياد بصوتها الذي اعتقدنا أنه لن يخرج من ليالي الأندلس أو قصر بيت الدين.
غاب زياد عن آخر حفل لفيروز، لعلّه أراد أن يترك المسرح لفيروز لتقول بعضاً ممّا لديها، قبل أن ينتقل الجدل إلى مقاهي بيروت بحر الكلام: هل ستعتزل فيروز؟ وهل هذه هي الإطلالة الأخيرة قبل أن تختار المكان والزمان الذي ستركن إليه بكل هذه الذكريات التي حملها صوتها؟
أليست هي حارسة تلك الأشعار والألحان التي مرّت في حنجرتها وضخّت الدماء في شرايينها؟
هكذا أريد أن أتخيّل غياب زياد عن حفلتها الأخيرة في بيروت، تاركاً لها كل ما زرعه صوتها في ثنايا روحه وروحنا، ليس مريضاً أو متقاعساً،
لا يريد أن يقاسم فيروز أياً من بريقها السبعيني، يفعل فعل الكبار، فالتصفيق ليس سوى وسيلة متاحة لا يذكرها التاريخ.