كان أوّل عهدي بالعمل الصحفي، منتصف القرن الماضي، عندما طالعني خبرٌ نشرتْه إحدى الصحف اليومية، عن زيارة تقوم بها إلى لبنان، السيدة فاطمة، زوجة ملك ليبيا، إدريس السنوسي.
<<<
رحتُ أبحثُ عنها إلى أن علمت بأنها تنزل، مع حاشيتها، في فندق صغير في مصيف بحمدون.
حاولت الاتصال بها عن طريق صاحب الفندق؛ فأكّدَ لي صحّةَ الخبر، إلا أنه أبلغني بأن الملكة هنا للراحة والاستجمام وترفض المقابلات، وخصوصاً الصحافة، إلاّ أنه، أمام إلحاحي وحماستي، عاد ورضي بمساعدتي، وبأن يمهّد لي السبيل إلى لقائها.
<<<
وهذا ما تحقّق.
غير أن الملكة جعلتْ شرطاً بأن تُجرى المقابلة في الصباح الباكر، ومن دون وجودِ مصوّر.
<<<
وأذكر بأني، ولشدّة حماستي، لم أنتظرْ حتى الصباح؛ بل حجزتُ لي غرفةً في الفندق وبتُّ هناك بانتظار اليوم التالي.
<<<
وبقي موضوعُ التصوير معلَّقاً، وكان أمرُه مهمّاً بالنسبة إلى المجلّة التي أحرّر فيها: «الصيّاد».
ولم أرَ بدّاً من اللجوء إلى الحيلة، فطلبتُ من أحد المصوّرين التقاطَ صورٍ للملكة وحاشيِتِها لدى مغادرةِ الفندق.
<<<
ما زلتُ أذكر، من ذلك اللقاء، لطفَ الاستقبال، الجوّ البسيط حول تلك السيّدة. صوتها الهادئ، والنبرة الخافتة. وكانت تُحيط بها شلّةٌ من سيداتٍ مرافقات، ويُشبهنها باللطف وتواضع الحضور. ويرتدين مثلها، اللباسَ الشعبي البسيط.
<<<
تناولَ الحوار، إلى غاية الزيارة، أوضاعَ النساء في بلادها والمشاريع التي تقوم بها أو ترعاها. كما أكّدتْ أنها لن تقومَ بأيّ اتصال بالجمعيات النسائية في لبنان لأنها في زيارةِ استجمام.
وفي الختام، طلبتْ أن لا أنشرَ خبرَ اللقاءِ أو الزيارة إلاّ بعد مغادرتها البلد.
<<<
نزلتُ عند طلبها ورغبتها، إنما أخفيتُ عنها خبر المصوّر المتخفّي مع الكاميرا، واعتبرتُ ما أقوم به ضرباً من «الشطارة» المهنية، وكنّا نلجأُ إليها نحن المبتدئين، ربما لنثبتَ جدارتنا.
<<<
وهكذا حسبتُ بأن المغامرة انتهت، وأني انتصرتُ إذْ حصلتُ للمجلّة على «سبق» صحفي لا ينافسُني عليه أحد من الزملاء، خصوصاً وأني كنتُ الفتاةَ الوحيدة بين أكثريةِ شباب.
<<<
لكني لم أحسبْ حسابَ الثغرةِ التي فتحتُها بالاستعانةِ بمصوّرٍ من الخارج، ولا ينحصرُ عملُهُ بنا أو بصحيفة معيّنة، بل يقصدُه محرّرون من عدّةِ صحف يومية.
<<<
ولماذا خطرَ في بال ذلك المصوّر أن يُفاخرَ بالمغامرةِ التي حقَّقَها، فيروي ما جرى لأحدِ الصحافيين، ويصف له تفاصيلَ مقابلتي مع الملكةِ من وجهةِ نظره، من دون أن يُغفلَ عمليةَ التصوير، ممّا أثارَ شهيّةَ الزميل، وكان مشهوراً بأعمالِ قرصنةٍ وسطوٍ على تحقيقاتٍ قام بها غيرُه من الزملاء.
وعندما عُرضتْ عليه الصورةُ الفريدة التي اْقتَنَصَها المصور، دسّها في جيبه وخرج.
<<<
لكن عملية احتفاظه بالصورة بقيتْ سرّاً لم أدركْ حقيقته: وهل حقاً أخفاها في جيبه وتوارى، أم أنه أغرى المصوّر بالثمن؟
<<<
وبما أن الزميلَ كان يعمل لحساب صحيفة يومية، فقد «جَيَّرَ» الموضوعَ لحسابه، واعتبرَه سبقاً صحفياً حققَّهُ ونشرَهُ في صباحِ اليوم التالي تحت عنوانٍ يُفيدُ بأنه تفرّدَ بمقابلةِ الملكة. مفصِّلاً الوصفَ من خياله، ومن بعضِ ما التقطَهُ من كلامِ المصوّر.
<<<
وبالطبع، كانت صدمةً قويةً بالنسبةِ لصحافيةٍ مبتدئة، وعدتْ مديرَها بأن تُقدّمَ سبقاً تفرّدتْ به.
<<<
لم يكنْ باليدِ ما أفعلُه سوى قبول ما حصل، إذ لم أشأْ أن أفتحَ معركةً مع زميل يُحوِّل الحرامَ إلى حلال.
إنما بقيتْ تلك التجربةُ درساً في الإعلامِ لن أنساه.
<<<
ونزولاً عند طلبِ مدير التحرير، نشرتُ المقابلة، مع تفاصيل خاصةٍ باللقاءِ الحقيقي. وتجاهلتُ ما قد نشرَهُ الزميلُ في صحيفته. وعندما التقيتُهُ بعد حين اعترفَ بفعلتِهِ التي يحسبُها ضرباً من «الشطارة».
<<<
وقد دام حكمُ إدريس السنوسي من العام 1951 حتى 1969 عندما أطاحتْهُ الثورة، فغادرَ الحكمَ من دون أن يقاومَ أو يسفكَ دماءَ شعبه.