من اليمين للشمال، ولكن الأبجدية مختلفة، رموز كأنها للغة قديمة اندثرت بزوال ناطقيها، لماذا تولد الآن مرة أخرى؟ لماذا يجري بها قلمي بطلاقة واندفاع كأن أحدًا يملي عليَّ بسرعة؟ إن يدي تعمل وحدها، كأن بها حياة مستقلة، أو كأنها تطيع رأسًا غير رأسي.
ستقولين ربما هو خطاب غرامي لكليوباترا! ولكن لا، ليست هي أبجدية الإغريق، وقبل أن يذهب ذهنك إلى حتشبسوت، بالتأكيد هذه ليست رموزًا هيروغليفية، فليست بها طيور، ولا سنابل، ولا مفاتيح حياة.
إنها رموز لم أرها من قبل، حتى في كتب التاريخ، ليست سومرية، ولا بابلية، ولا عبرية ولا آرامية، ولا سنسكريتية، العجب أني أفهمها.
من اليمين للشمال، أو من الشمال لليمين، كتابات تتوالى عبر القرون، والمعنى واحد في النهاية.
يشتاق الإنسان لثلاث: الحب، والخبز، والكرامة.
ها أنا أترجم النص المتنزل –كأنما من كوكب آخر- دون مجهود، ترجمة فورية عربية فصحى.
يحترق الإنسان أمام ثلاث: ولده حين يبيض وجهه من نقص التغذية، وأخوه حينما يصفعه باسم القانون والنظام، وحبيبته حين ترفضه لفقره.
الحروف العجيبة تختفي، تتحول الأبجدية لصورة سينمائية، بل صورة على الهواء مباشرة تنقلها الأقمار بين شمس أمس وغد.
كمية النباتات التي نبتت في مارس هذا العام، الزهور، والشجيرات، والأشجار، والثمار عجيبة! ما الذي جمع الخوخ، وجوز الهند، والمانجو، وحبة البركة، والنعناع، والنارنج، والمشمش في غصن واحد؟
هل هذه السطور نقلت عبر الأقمار من كوكب آخر؟
لماذا كل هذا الدفء يا رباه؟ إني أكاد أتخلى عن حذري، أكاد أذوب بتلقائية قطع ثلج خارج بيئتها الأصلية.
تردين بأن الجو كان هكذا طيلة الوقت، أخلع ملابسي الشتوية القاتمة تراقصينني في الشارع، أنغام متوسطية، تصاحبها بعض كمنجات الغجر، آخرون معنا، كلهم يبتسمون.
حديقة مترامية الأطراف، يكمل البهجة فيها أطفال يلعبون الكرة، أصواتهم كالعصافير، بل أصواتهم أكثر بهجة، وإثارة للشجن، وأنت معي، يدك في يدي، ومعنا طفل صغير جدًا، وآخر في العاشرة، وطريقنا ممتد موغل في الأخضر، وثمة وعود تتلى بلغات شفافة، بلا جمل، ولا ألفاظ، ولا حروف، فقط معان خالصة.
لن تخشى الجوع بعد اليوم، الجوع، أو الذل، أو الهجران، لم تفجع في محبوب، أو تطعن غدرًا من محبوب، لن تكره نفسك، لن تحتقر أحباءك، لن تتخلى عن ذكائك؛ لكي لا تفهم المعنى الواضح للخديعة، أو الإهانة، أو الحقيقة الصادمة، لن تضطر للكذب على نفسك، أو على غيرك، ولن تنحني، أو تحبو على أربع من أجل لقمة العيش.
وعود تتلى، وأبيات من شعر:
كنت أراك تسيرين كل يوم في هذا الشارع من بيت ذي حديقة صغيرة إلى حضانة الأطفال
وكنت أشم عبير شعرك من بعد
شعرك المضفور بالزهور الطفلة
بالبراعم الأولى لموسم الدفء
كنت أنتظر في هذا الموقع كل يوم
بالضبط في منتصف المسافة
بين البيت ذي الحديقة
والحضانة ذات الأطفال
لكي أراك أطول فترة ممكنة
ومن أقرب نقطة ممكنة
وها أنت معي.. أنظر في عينيك
فأقرأ أصل اللغات وأفهمها كلها
اختفت الصورة الحية وعاد النص، النص الحي للغة ميتة، أو هكذا تبدو، بينما الحق أنها معفرتة كتعزيمة سحر تتلى لتسخير الجن.
عاد النص لحظات ثم ارتدت الصفحة بيضاء، كأنها لم تعرف الكلام، ولا اللغات، كأنها ذاكرة مولود رضيع.
هل كنت طوال هذا الوقت أفكر فيك؟ لم أرفع القلم بعد لأكتبك؟
أيتها البنت التي تسير في الصبح المبكر بين بيت صغير ذي حديقة وحضانة أطفال، في شعرها نوار البراعم الأولى لموسم الدفء، كم أن ذكراك وحدها ملأت هذه الورقة بالكلام، كما تمتلئ أرضنا الآن بالربيع.