ذات يوم تمّ العثور مصادفة على رضيعة لم يتجاوز عمرها ثلاثة أيّام، مرميّة في ركن شبه مظلم في شارع من شوارع أحياء مدينة «سيول» بكوريا الجنوبيّة، تخلصت منها أمها خشية من الفضيحة والعار، هذه الرضيعة هي اليوم امرأة في الثالثة والأربعين من العمر، جميلة، أنيقة وذكيّة، وأصبحت وزيرة للثقافة في فرنسا، وبين يوم العثور عليها مرميّة في الشّارع في كوريا، وبين وصولها إلى منصب وزيرة في فرنسا، قصّة إنسانيّة مؤثّرة تكشف «سيّدتي» في هذا التحقيق بعض فصولها.
«سيول» عاصمة كوريا الجنوبيّة، عام 1973
في يوم ممطر، رمت أمّ في شارع مظلم من شوارع المدينة ابنتها الرضيعة التي أنجبتها من علاقة غير شرعيّة، تخلّصت منها، لم تضعها في دار رعاية الأطفال الأيتام ومجهولي النّسب؛ خشية الفضيحة والعار فالأمّ العزباء في كوريا غير معترف بها ومرفوضة من المجتمع، الأقدار بعثت لها يومها رجلاً ماراً عثر عليها صدفة، واكتشف أنها لم يتجاوز عمرها اليومين، فأعلم عنها الشرطة التي أحالتها إلى دار الأطفال اليتامى، أخذوها عندهم وسموها «كيم جونغ سوك» (ومعناه المرأة الكاملة والمثاليّة) وتركوها في رعايتهم.
رحلة الشّتاء
في فرنسا، كانت هناك عائلة فرنسية مقيمة في ضواحي العاصمة باريس تتكوّن من زوجين هما Annie «أنّي»، وهي ربّة بيت، وJoël Pelle¬rin «جووال بلاران»، وهو باحث في الفيزياء ثم أسّس شركة لبيع المعدّات الطبيّة، كانا يبحثان عن طفل يتكفّلان به، ولأنّ التبنّي في فرنسا يكاد يكون مستحيلاً لعدم توافر أطفال يتخلّى عنهم ذووهم.
تقول «أنّي» عن تلك الفترة: «لم ننجب أبناءً وقرّرت وزوجي أن نتبنّى طفلاً، ولم تكن لنا دراية بالطّرق الواجب اتّباعها، وصادف أن طالعنا مقالاً في مجلّة «باران» (الأولياء) عن جمعيّة إنسانيّة هي «أرض البشر» الراعيّة للطّفولة البائسة وتتوسّط في عمليّات التبني من خارج فرنسا، فاتّصلنا بها وأبلغناهم برغبتنا، فأخبرونا أن هناك شروطاً، أهمّها أن يكون قد مرّ عشرة أعوام على الأقل على زواج المتبنّين، وأن يفوق عمر المتبني 30 عاماً، و وبعد فترة وعندما توفّرت فينا كلّ الشّروط المطلوبة تمّ تسجيلنا في قائمة الانتظار.
وذات يوم حدثنا أحد أعضاء الجمعيّة يطلب منا الحضور بسرعة، ذهبنا وعرضوا علينا صورة طفلة كوريّة عليها رقم وتاريخ الميلاد، وكان عمرها في الصّورة يوماً أو يومين، قبلنا بفرح، ويوم 28 فبراير 1974 وصلت الرّضيعة على متن رحلة من سيول إلى باريس، كان عمرها ستّة أشهر، ولمّا رأيتها أوّل مرّة أحسست برعشة لا أقدر على تفسيرها»
طالع خير
في فصل الرّبيع، بدأت «كيم جونغ سوك» حياة أخرى، وكتبت لها الأقدار صفحة ورديّة، حافظت على اسمها الأصلي الموجود إلى اليوم على جواز سفرها، ولكن أسرتها الجديدة اختارت لها اسما ثانيّا هو«فلور» عاشت الطفلة مع هذه العائلة عيشة راضية، وكانت طالع خير عليها؛ فقد ازدهرت تجارة الزوج في بيع معدّات البحث الطبّي، وانتقل بالسكن من ضاحيّة «مونتروي» إلى ضاحية «فرساي»، وأصبح من الميسورين، ولمّا بلغت سنّ الثّالثة عشرة تبنّت الأسرة ابنة ثانيّة من كوريا أيضاً لتكون لها أختاً، لم تخفِ الأسرة على «فلور» قصّة تبنّيها، وحالما أصبحت تعي مثل هذه المسائل أخبروها بأصلها، وأعطوها ملف التبنّي وبه كل الوثائق الخاصة بها.
علامات ذكاء
ظهرت على الطفلة علامات الذكاء، وكانت الأولى دائماً في فصلها، وبفضل إحاطة والديها بها نجحت في نيل الثانويّة العامّة بتفوّق ولم تتجاوز السّادسة عشرة من العمر، وفي دراستها الجامعيّة كانت لامعة وتخرّجت من المدرسة القوميّة للإدارة (مدرسة النّخبة في فرنسا) في دفعة تحمل اسم «ابن رشد»، وتابعت في الآن نفسه دروساً في العلوم السياسيّة، وتحصّلت على شهادة عليا، وتخرّجت بامتياز لتعمل في وظيفة قاضيّة في «دائرة المحاسبات»، ثمّ دخلت العمل السياسي عام 2000 وانضمّت إلى فريق «فرانسوا هولاند»، وكانت إلى جانبه عندما خاض معركته الانتخابيّة، ولمّا فاز بالرّئاسة في مايو (آيار) 2012 عيّنها وزيرة للاقتصاد الرقمي، ثمّ وزيرة للتّجارة الخارجيّة، وفي أغسطس 2014 اختارها وزيرة للثّقافة والاتّصال، ووزارة الثّقافة في فرنسا تعدّ وزارة سيادة، لما توليه الدولة والشّعب من أهميّة لكلّ ما له صلة بالثقافة.
كثمرة الموز
تقول «فلور» متحدّثة عن نفسها: «لم أعانِ في طفولتي من مظاهر العنصريّة في المدرسة، رغم أنّ البعض كان يطلق عليّ اسم «الصينيّة»، واليوم عندما أنظر لنفسي في المرآة لا أرى امرأة آسيويّة ولكن أشعر بأنّي فرنسيّة كاملة، لا أشعر بالتمزّق بين حضارتين وثقافتين، فكوريا بالنسبة لي بلد أجنبي».
لا تريد الحديث عن تبنيها، مؤكّدة أن تاريخ ميلادها بدأ يوم وصلت رضيعة إلى مطار «باريس-أورلي»، مضيفة: «أنا لا أب لي ولا أم سوى اللذين تبنياني، وأقنعت نفسي بأن لا ألقي أسئلة». قال عنها صديق: «هي كالموز صفراء من الخارج بيضاء من الدّاخل» في إشارة إلى أنّ شكلها هو من الجنس الأصفر، ولكنّها في أعماقها هي فرنسيّة، وتقول عن نفسها: «إنّ من طبعي عدم إظهار مشاعري»، ولكن عندما تغضب فإنها «تخرج القنبلة النووية».
الزوجة والأم
عندما تزوّجت «فلور» زواجها الثّاني كان عمرها 32 عاماً، فزواجها الأوّل لم يدم طويلاً حيث تم الانفصال في الفترة الأخيرة من حملها بابنتها الوحيدة «بينيريس» التي تعيش معها اليوم وعمرها 10أعوام. تقول الوزيرة: «زوجي الأول كان يعمل بالخارج وكثير السّفر والغياب، واليوم أنا أكثر حظاً بوجود رجل موجود بجانبي دائماً».
وزوجها الحالي «لوران» يعمل مستشار دولة، ومسيرتهما الدراسية متشابهة، وعندما تزوجها كان بدوره مطلّقاً وله ابنان هما اليوم عمرهما 10 و12 عاماً.
التقت «فلور» «لوران» في اجتماع سياسي، وبعد تبادل بعض «الإيميلات» كانت بينهما مواعيد، وعاشا قصّة حب توجاها بزواج، ووفق شهادتهما فإنّهما يحبان الضحك والطبخ والرسم، مشيرة إلى إن زوجها يدخل المطبخ ويقوم بالأعمال المنزلية وهو يقول متفاخراً: «إني زوج جاكلين كيندي».
الزّيارة
لم تظهر «فلور بلّران» يوماً رغبة في زيارة البلد الذّي ولدت به، وعندما أصبحت وزيرة وجدت نفسها مضطرة بحكم مصالح فرنسا إلى القيام بزيارة رسمية إلى كوريا، وقداستقبلوها استقبالاً حافلاً، وصدرت مختلف الصحف ووسائل الإعلام الكورية يوم وصولها بعناوين ضخمة في الصفحات الأولى، مبرزة فخر الشّعب الكوريّ بها، رغم أنها لم تكن تعرف كلمة واحدة من اللغة الكورية، ولكنّها كانت تعامل كـ«نجمة»، وطبقوا عليها البروتوكول الخاص باستقبال الملوك والرّؤساء، ولمّا سئلت عن تفسيرها للاستقبال الرّائع الذّي حظيت به أجابت: «هناك ما يشبه الشعور بالذنب لدى الشعب الكوري اليوم بسبب التخلي عن آلاف الأطفال، والسماح بتبنيهم من الخارج».
قضيّة غريبة
استضافت الصحفيّة «مايتنا بيرادن» في برنامجها الأسبوعي «الملحق» في قناة «كنال بلوس «وزيرة الثقافة «فلور بلّران»، وتطرّق الحديث إلى الروائي الفرنسي «باتريك مودينانو» الحائز وقتها على جائزة «نوبل» للأدب 2014، فسألتها الصحفيّة في سياق الحديث: «ما هو كتابك المفضّل لباتريك مودينانو؟» فردّت بتلقائيّة إن مشاغلها الكثيرة لم تترك لها وقتاً كافياً لمطالعة الكتب، وإنّ قراءتها للمذكّرات الإداريّة والتقارير لم تترك لها فرصة لمطالعة الكتب منذ أن تم تعيينها وزيرة في ربيع 2012 إثر فوز فرانسوا هولاند في الانتخابات الرئاسيّة.
زوبعة
لم يدر بخلد الوزيرة أنّ كلامها هذا سيثير حولها زوبعة في وسائل الإعلام ولدى الرأي العام، وانهال عليها سيل من اللوم والنقد، وقامت حملة ضدّها، ونعتها الكثير من الفرنسيّين بـ«وزيرة الجهل»، وتجاوزت القضية فرنسا ليصل صداها إلى إنجلترا وإسبانيا، وتمّ وصف الوزيرة بأنّها «عار» على فرنسا.
المدافعون عن الوزيرة
وإذا كان العدد الأكبر وقتها انتقد الوزيرة، فهناك قلّة دافعت عنها ورأوا أنها كانت صريحة وتلقائية، وأن المهم هو عملها وليس مطالعتها، ثمّ إنّ الأديب الفرنسي الفائز بجائزة نوبل 2014 هو روائي نخبوي.