عادت لبنى فقيري إلى بلدها محمولة في نعش خشبي، لبنى التي أنهى حياتها غدر الإرهاب المميت الذي أزهق أرواح أبرياء ذاك الصباح البارد الأسود في حياة البلجيكيين. لبنى المغربية الأصل عادت إلى أرضها محفوفة بذويها وأهلها في مدينة سلا لترقد في مقبرة المدينة بسلام بعد أن وضع الإرهاب حداً لحياة شابة رياضية مرحة مقبلة على الحياة. سيدتي كانت هناك؛ لتقديم العزاء ولتنقل لقاءها قصة امرأة مهاجرة انتهت حياتها باكراً.
فقدان وبحث محموم عن لبنى ذات الأطفال الثلاثة والمنحدرة من مدينة سلا المغربية قرب العاصمة الرباط، بعد الانفجارات التي عرفتها بلجيكا، نشرت الأسرة إعلان بحث عنها في بعض الصحف المحلية، بأنها خرجت في اتجاه عملها في الصباح الباكر من ذلك اليوم، ولم تعد. الأسرة أوردت في إعلان البحث أن لبنى: «كانت تستقل مترو الأنفاق، وبالضبط في محطة «مالبيك»، التي وقع فيها الانفجار الإرهابي في التاسعة صباحاً قبل أن ينزل الخبر الحزين يوم الجمعة: «لبنى ماتت»، وتم التعرف على جثمانها من خلال «الأدي إين»، وتم تأكيد الخبر رسمياً من طرف المصالح الدبلوماسية في بلجيكا.
إلى آخر لحظة، ظلت أسرة هذه الشابة المزدادة عام 1989، متمسكة بالأمل في ذلك اليوم المشؤوم الذي اهتزت فيه بروكسيل، قلب أوروبا، في هجومين انتحاريين استهدفا مطار «زفنتيم» ومترو الأنفاق في «مالبيك»، يوم 22 مارس من الشهر الماضي.
اتصلت عائلتها بالمستشفيات والشرطة، لكن لا خبر يخفف من معاناة أسرتها الصغيرة والكبيرة، ويدخل الطمأنينة لقلوب أصدقائها. ولأن الشرطة، كانت حينها منشغلة بحالة الاستنفار وبمطاردة الإرهابيين، استعصى عليها تحديد هويات جميع الضحايا، وواجهت صعوبات في ذلك، تشبثت أسرتها بالأمل والصبر، إلى أن أُبلغت يوم 24 مارس الماضي بمقتل «لبنى».
«لبنى لفقيري» هي أول مغربية تم التعرف عليها من ضحايا ذلك اليوم المجنون الأسود الحزين، هي أستاذة للرياضة بمدرسة «لافيرتي» الموجودة في «أندرلخت». حظها العاثر قادها إلى التواجد في محطة «مالبيك» في الطريق إلى عملها، وباقي القصة يعرفه الجميع.
من بعيد تظهر خيمتان منصوبتان قرب منزل والدي الراحلة، ودونما الحديث يقابلونك بوجه حزين ولسان لا يكف عن الدعاء بالهلاك فيمن تسبب في فقدان شابة محبة للحياة، وتيتم أطفال وترمل زوج.
صعدنا الدرج إلى الطابق العلوي، كانت والدة الضحية جالسة بحزن ترتدي جلباباً أخضر وغطاء رأس باللون نفسه، وكأنها تقول: «ألا خوف عليك يا ابنتي، شهيدة بإذن الله»، عزيناها في مصابها، قبلت الحديث إلينا لكن بشروط. «المصاب جلل وابنتي رحمها الله كانت نعم الشابة، طموحة ومحبة للحياة، ولدت ودرست هنا ببلجيكا، كانت أستاذة الرياضة ولها أنشطة متعددة، كانت تشرف على خرجات رياضية خاصة بالنساء، بعضهن كن يرتدين الحجاب، لذا كن يلجأن إليها لتدريبهن وبحثاً عن الخصوصية.
كل همها إسعاد المرأة، كانت تحتفل بالأعياد الإسلامية أكثر من المسيحية، مواظبة على صلاتها، لا تفارق البسمة محياها، عاشقة لعملها. خلاصة القول كانت، رحمها الله، رائعة». كان زوجها، أول من تحدث عنها بعد تأكيد مصرعها، تضيف والدتها، خصوصاً أنها كانت قد تعرضت لحادثة سير قبل ذلك، كان يتصل بها تقريباً كل ساعة للاطمئنان عليها، وما زاد من هلعه معرفته بالانفجار الذي وقع حينها.
«لحسن الحظ كان يشتغل زوالاً» تقول السيدة غيثة: تحت خيمة بيضاء، جلس الأهل والأصحاب والأقرباء في عزاء الراحلة لبنى، قرآن يتلى ودموع تنهمر، وحديث كله غضب وحسرة على أناس سخروا أنفسهم لتدمير البشر، تحت غطاء الإسلام الذي هو براء منهم. في الجانب الآخر يتحدث رجل في العقد الخامس من عمره يغزو الشيب شعره ولحيته، ويقول بصوت مرتفع: «الصلاة ستقام بمسجد عبدالمالك، نريدك معنا قبلها» تتجه النسوة إلى الخيمة الثانية، بأمر من ابنة عمة الراحلة بعدما قالت بصوت غاضب: «من فضلكن نريد النساء بمعزل عن الرجال». كان الحديث مع إخوة الراحلة وبعض من أهلها صعباً للغاية، كانوا يرفضون الحديث إلى الصحافة.
فجأة يسمع صوت سيارة نقل الأموات، ترتفع الهمهمات، لقد أتوا بصندوق الراحلة: «البقاء لله الواحد القهار»، يتهافت الصحفيون لأخذ الصور، يحمل الصندوق على الأكتاف وتنقل إلى الخيمة، حيث يوجد المعزون، لقراءة آيات من الذكر الحكيم والترحم على روحها.
بحزن ظاهر قال يوسف الفقيري، شقيق الراحلة لبنى الفقيري: «كل التفكير في الضحايا وعائلاتهم»، إن بلجيكا والمغرب يعيشان الحداد اليوم، لقد فقدنا إنسانة رائعة، وأضاف: «أن نعيش معناه أن نلتقي مع الاختلاف، فلتحيا الحياة».
بعد لحظات وصلت السيارة التي تنقل زوج الراحلة رفقة إخوته حاملاً معه باقة ورد، ثم جلس وسط المعزين، لتقرأ سورة يس وأواخر سورة البقرة وبعض من السور، تلتها أمداح نبوية تمدح في حب خير البرية، لتختم بالدعاء للراحلة التي قال عنها الفقيه إنها شهيدة بإذن الله، ولم يتمالك الزوج نفسه، وهو يبكي شريكة العمر التي غادرت الحياة من دون سابق إنذار.