لا يزال المسرح في العالم كله، يحكي لغات متعددة للجسد، تُغني عن الحوارات والمنولوجات، بخفة اليد والوثب والرقص التعبيري، حيث تصل القصة كاملة للمتلقي، ممزوجة بالمتعة البصرية التي لطالما حاول المسرح أن يقدمها للجمهور، وهذا بالضبط ما قدمه العرض التشيلي "القبو bunker" للمخرجة بولا كالديرون، على خشبة المسرح الدائري في المركز الثقافي الملكي، ضمن فعاليات اليوم الرابع والأخير من مهرجان ليالي المسرح الحر، بدورته الثانية عشر في العاصمة الأردنية عمان.
نظرتين في عمل واحد..
فتح العرض التشيلي "القبو bunker"، أبواباً عديدة للتأويل على كامل مصارعها في ذهن المتلقي، فذهب بهم إلى فصول المثلوجيا والأسطورة، من باب صراعات إنسانية أبطالها عائلة من خمسة ممثلين، أم وأب وأبنائهما الشابين والفتاة، يلجأون إلى "قبو" عقب كارثة إنسانية دمرت العالم، ويعيشون فيه بحالة من الرتابة والملل الشديدين، حتى يحدث أمراً يكون هو الفارق في أيامهم المتشابهة التي تمر جميعها بالروتين نفسه والأحداث نفسها، وذلك حين يكبر الأولاد، وتبدأ علاقة حب بين أحد الشقيقين والفتاة، وتفتح الباب لدورة جديدة من الحياة، تملأها الفوضى، وهكذا تمر الصراعات المتتالية بين الشقيقين والفتاة من جهة، ومن جهة أخرى مع الأب والأم، اللذان يعيشان قبل ذلك حالة من البرود العاطفي والجنسي، ليشتعل من جديد بعد ما حدث، وينتهي العرض باستمرار الصراع بينهم، واستمرار دورة الحياة الرتيبة كما كانت، بأن تتسلم الفتاة دور أمها ومهامها في "القبو"، وتتزوج من ذلك الشاب، بعد أن مات شقيقه في هذا الصراع.
الصراعات التي حدثت بين أفراد هذه العائلة، خاصة بعد اختفائهم في القبو، عقب الكارثة التي حدثت في العالم، عملت على إعادة صياغة التاريخ من جديد، من خلال قصة آدم وحواء، وقابيل وهابيل، والصراعات التي ذُكرت في أحداثها، من حيث الإقتتال الذي نشب بين الشقيقين، وعلى أثره قتل أحدهما الآخر، ومن بعدها أعادت عجلة الحياة دورتها بأن تصنع آدم وحوا جديدين، أخذ فيه الشاب دور الأب والفتاة دور الأم.
دورة الحياة والمثلوجيا في العرض
محاولة المزج بين الميثولوجيا ودورة الحياة وإعادة إحياة قصة الخلق بين آدم وحواء، عبر هذه العائلة، كان موفقاً إلى حدٍ كبير، حيث تمكنت المخرجة التشيلية من إسقاط الحالتين على بعضهما، عبر الأداء الجسدي، وسير الأحداث، بطرح فكريّ ومسرحي جديد تماماً، يعرض مقولة سُنة الحياة التي تستمر بالمضي دون الإكتراث إلى الشخوص، والتي تُعيد نفسها مراراً وتكراراً.
حين يكون الجسد هو راوي المسرحية..
الحديث بالجسد، لغة أخرى تجمع العالم أجمع، ويُحرك أذرع التأويل في أخيلتنا، وعلى الرغم من صعوبته على كل من المؤدي والمُتلقي معاً، إلا أنه يبقى لغة جامعة.
في العرض التشيلي، وعلى الرغم من الصعوبة التي ذكرناها سابقاً إلا أن الفريق تمكن من النجاح تماماً في هذا الإختبار الصعب، وأبدى احترافية عالية، ودقة كبيرة في الأداء الجسدي الذي قدمه على الخشبة، والذي كان محسوبة جيداً بكل خطوة فيه حتى، بأقصى حالات الفوضى المفتعلة والمنظمة التي مرت بها أحداث العمل. وليس من السهل أيضاً أن توصل فكرة بهذا العمق وهذه الأبعاد المتعددة إلى الجمهور، وهذا ما تمكن الممثلون من القيام به، بكلا الحالتين السكون والحركة على الخشبة، بعيداً عن الثرثرة في الأداء لإيصال ما يريدون إيصاله، فكانت كل حركاتهم وإيماءاتهم محسوبة تماماً، ومدروسة بكيفية خدمت العرض.
سينوغرافيا العمل
اعتمدت المخرجة كالديرون، على ديكورات بسيطة توضح الحالة العامة لحياتهم في "القبو"، من الصحون إلى الحقائب الحافظة للطعام، وغيرها، استطاعات أن تخدم العمل وأداء الممثلين دون أن تكون عائقاً في طريق أدائهم السريع، وإيقاعهم الذي حافظوا عليه طوال الوقت، ومن جهة أخرى كانت الإضاءة قادرة على الفصل بين الخيال والواقع على الخشبة، إلى الحد الذي دفعت به المتلقين إلى معايشة أجواء العمل كاملة.