يوافق يوم الأحد 8 أبريل- نيسان 2018 الذكرى الخامسة لرحيل رئيسة وزراء بريطانيا البارونة مارغريت هيلدا روبرتس الشهيرة عالمياً بـ مارغريت تاتشر، أول امرأة في تاريخ بريطانيا وأوروبا تتولى منصب رئيسة وزراء، وأيضاً منصب زعيمة حزب المحافظين ثلاث مرات متتالية في القرن العشرين، والتي وصفت بالمرأة التي غيرت وجه بريطانيا والعالم بسياساتها الجبارة.
المرأة الأكثر تأثيراً في التاريخ البريطاني، والتي شيعت بجنازة رسمية مهيبة تضاهي جنازتيْ الليدي ديانا والملكة إليزابيث الأولى، حيث توفيت عن عمر طويل ناهز 87 عاماً يوم الإثنين 8 إبريل- نيسان عام 2013 بعد تعرضها لجلطة مفاجئة في الدماغ، وبعد معاناة طويلة مع مرض الزهايمر، فمنعها الأطباء من التواجد في الأماكن العامة منذ عام 2002، وسرب مقربون منها أن كبرياءها المعروفة به، وحفاظاً على صورتها ولقبها كأول امرأة حديدية في بريطانيا وأوروبا لقوة شخصيتها الخاصة والعامة كان وراء قرارها بالاختفاء من الساحة السياسية والاجتماعية.
كارول تتحدث عن والدتها مارغريت تاتشر
وقد أكدت ابنتها الصحفية كارول تاتشر بمذكراتها الشخصية حول والدتها خطورة إصابتها بألزهايمر ووصفت حالتها قائلة: "إن أولى علامات المرض ظهرت لوالدتي في سن الـ75، وبدأ المرض في حفل غداء عام؛ حيث بدت ذاكرتها مشوشة بشأن الصراعات في البوسنة والهرسك وجزر الفوكلاند، وكانت تنطق الكلمات بكل صعوبة، وتكرر بعض العبارات بصورة مستمرة مثل: متى تأتي سيارتي؟ أو متى سأذهب إلى مصفف الشعر؟ وكان اضطرارها إلى ترديد تلك العبارات فاتحة فصل مرعب في حياتنا، وقد اضطررت لأن أكون صبورة في التعامل معها، وأن أدرك أنها تعاني من مرض".
وتضيف كارول متابعةً: وكانت أمي في أيامها العصبية بالكاد تذكر في نهاية الجملة كيف بدأتها، ولقد استغرق منا الأمر بعض الوقت؛ لكي ندرك أنها لا تستطيع تذكر عنوان رئيسي لصحيفة قرأتها للتو، أو ماذا تناولت من طعام في الإفطار هذا الصباح.
قصة نجاح وصعود مارغريت تاتشر المثيرة للصراع والجدل
رغم مضي نصف عقد «خمس سنوات» من الزمن على رحيلها مازالت مارغريت تاتشر تمثل أسطورة نجاح سياسية صعب أن تتكرر، ونموذجاً لملايين النساء حول العالم ممن يستلهمن الكثير من القيم والقوة من سيرتها ونجاحاتها، ومازالت حية لم تمت في تاريخ أوروبا، وذاكرتها السياسية وقلوب أبناء الشعب البريطاني الذين أسعدهم الحظ بأن يعيشوا عهدها ويروا قوتها وإنجازاتها بين السياسيين الرجال رغم اتهامها بمعاداة الفقراء؛ لتقليص العلاوات المالية لهم.
ولدت مارغريت هيلدا روبرتس «مارغريت تاتشر» يوم 13 أكتوبر- تشرين الأول بمدينة غرانثام شرقي بريطانيا لعائلة، وكان والدها ألفرد روبرتس قبل أن يصبح عضواً في حزب المحافظين، وعمدة بلدية غرانثام لفترة قصيرة جداً مجرد بقال وتاجر للمواد الغذائية، ووالدتها خياطة ملابس، فنشأت وسط أسرة متواضعة ومتدينة مع والديها وشقيقتها مورييل، علمتها الاستقلالية والاعتماد على النفس بكل شيء.
وأخذت مارغريت عن والدها حس الانتماء لحزب المحافظين مبكراً، وعشقت السياسة؛ لكنها لم ترد احترافها إلا عند امتلاكها أدواتها جيداً.
التحقت مارغريت تاتشر بجامعة أوكسفورد العريقة في تخصص الكيمياء، ثم التحقت ببرنامج أكسبريدج النخبوي الجامع بين جامعتيّ أوكسفورد وكمبريدج، ثم عملت من عام 1947 حتى عام 1951 في البحث الكيميائي الصناعي البلاستيكي، ثم عملت بعد ذلك في قطاع صناعة المثلجات، وفي عام 1970 عينت وزيرة للتربية والعلوم.
وخلال عملها وصعودها السياسي المتدرج في حزب المحافظين من عام 1947 تزوجت عام 1951 من السير دينيس تاتشر الضابط السابق في سلاح المدفعية الملكية الذي كان يعمل بمجال البترول، ويكبرها بعشر سنوات، ودعمها لتحقق طموحها السياسي بقوة، وأنجبت منه توأمين: مارك «رجل أعمال» وكارول «صحفية ومؤلفة»، وعاشت معه بمستوى اجتماعي أعلى من مستوى عائلتها حتى وفاته قبلها بعشر سنوات في عام 2003.
وخلال سنوات قليلة استطاعت أن تحقق طموحها السياسي، فانتخبت رئيسة لحزب المحافظين عام 1975، وتولت رئاسة وزراء بريطانيا من عام 1979 حتى عام 1990، وهي أطول فترة حكم لرئيس حكومة في تاريخ بريطانيا وأوروبا. ورغم أنها امرأة كانت متشددة بسياستها المالية والعسكرية أكثر ممن سبقوها للمنصب ذاته من الرجال حتى لقبت بالمرأة الحديدية التي لا تلين، وكل خططها مسخرة لإبقاء بريطانيا دولة عظمى في العالم.
واضطرت في عام 1990 إلى الاستقالة؛ لعدم ثقتها بالفوز بانتخابات زعامة المحافظين؛ لمحاربة الكثير من السياسيين لها كامرأة حافظت على منصبها كل هذه السنوات الطويلة بدون منافس، وبعدها تم انتخاب جون ميجر خلفاً لها، ومنحت عام 1992 لقب بارونة، وأصبحت عضواً في مجلس اللوردات.
مارغريت تاتشر وسر لقب المرأة الحديدية
لقبت مارغريت تاتشر «بالمرأة الحديدية» بسبب جرأتها في السياسة الاقتصادية الليبرالية «العنيفة» التي اتبعتها في تسيير شؤون بريطانيا، وصراعها ضد نقابات العمال، وقيامها بخصخصة كبرى الشركات البريطانية، وتقليصها العلاوات الاجتماعية التي تدفعها الحكومة للعائلات الفقيرة والمتوسطة الدخل، فيما وفرت بيئة مناسبة للأثرياء لتشجيعهم على الاستثمار بشروط ميسرة وبقوانين خاصة نجحت بتمريرها بسهولة في البرلمان، عندما كانت رئيسة للوزراء من 1979 حتى1990.
كما قادت تاتشر في 1984 و1985 حرباً بلا هوادة ضد النقابات البريطانية التي نظمت مظاهرات شعبية؛ للتنديد بسياستها الليبرالية؛ لكن رغم التعبئة الكبيرة إلا أن تاتشر انتصرت في مواجهتها مع العمال وذلك بفضل الإجراءات الأمنية المشددة التي اتخذتها حكومتها لإنهاء الإضراب.
وفي 1982، بينما كان الاقتصاد البريطاني يمر بمشاكل صعبة، قررت مارغريت تاتشر الدخول في حرب طويلة ومكلفة ضد الأرجنتين؛ من أجل استرجاع جزر الفوكلاند التي استولت عليها بيونس آيرس. وبعد جهد حربي كبير، ربحت تاتشر الحرب؛ ما رفع رصيدها السياسي لدى النواب المحافظين وغالبية البريطانيين، وأدى إلى إعادة انتخابها للمرة الثانية رئيسة للحكومة البريطانية في 1983.
واستمرت خلال فترة رئاستها الثانية للحكومة البريطانية بتنفيذ إصلاحات اقتصادية وسياسية مهمة، فقامت بخصخصة عدة شركات وطنية كبرى ومعروفة أخرى على المستوى العالمي مثل اتصالات بريطانيا «وشركة رولس رويس» لصناعة السيارات الفخمة والخطوط الجوية؛ مما ساعد على انخفاض الأسعار بمرور الوقت، كما نجحت في التقليل من قوة النقابات العمالية رغم إضراباتها.
لكن كان أول من منحها لقب المرأة الحديدية الكابتن السوفييتي آنذاك يوري جافريلوف رداً على معارضتها الشديدة للشيوعية.
وسياساتها الاقتصادية والسياسية المتشددة هذه جعلت الشعب البريطاني منقسماً بشأنها، فهناك من يكنّ لها حباً وتقديراً كبيريْنِ؛ لمحافظتها على هيبة الدولة البريطانية، وهناك من يكرهها.
هذا ما تضعه مارغريت تاتشر في حقيبة يدها
أما حقائب اليد، التي اشتهرت بها مارغريت تاتشر، فكانت تختارها كبيرة لتتسع لعلبة مسحوق التجميل، وأحمر الشفاه، ودفتر صغير تدون به ملاحظاتها، وقلم ومشط.
مارغريت تاتشر امرأة أحبها وكرهها الشعب البريطاني بالقدر ذاته، ورغم انقسام الشعب البريطاني بشأنها كامرأة وكسياسية مثيرة للجدل بسياساتها خاصةً الاقتصادية منها التي عادت العمال والفقراء بقرارتها الإصلاحية لاقتصاد بلدها؛ لحمايته من الاستنزاف المالي، فإن يوم رحيلها حزن فيه ملايين البريطانيين، وأعلنوا الحداد عليها، وملايين آخرون ابتهجوا ورقصوا في الشوارع لزوالها؛ لكن الشعب البريطاني كله اتفق على أنها امرأة مميزة لا تنسى، امرأة أحبها الشعب البريطاني وكرهها بالقدر ذاته؛ لكن أعداءها قبل أبناء شعبها، احترموها جداً، والسبب أنها امرأة صنعت تاريخها بنفسها، كما صنعت تاريخ بلدها في أواخر القرن العشرين.
المزيد حول مارغريت تاتشر: