أصبحت حوادث التحرُّش الجنسيّ كابوساً مؤرقاً يفزع الأمَّهات ويقض مضجعهنَّ؛ خوفاً على أبنائهنَّ وبناتهنَّ من التعرُّض له ولآثاره النفسيَّة المدمِّرة، ما قد يجعل بعض الأمَّهات يصبن بحالات مضاعفة من القلق والوسوسة و"البارانويا"، وهو أمر سلبيّ لا يقل سلبيَّة عن اللامبالاة التي تعتري بعض الأمَّهات في توعية أبنائهنَّ.
وضمن الحملة البيضاء التي أطلقتها مجلة "سيدتي" ضد التحرش الجنسي بالأطفال، بالاشتراك مع برنامج الأمان الأسري الوطني، الذي ترأسه الأميرة عادلة بنت عبد الله بن عبد العزيز، ومشاركة (فندق إنتركونتيننتال جدة، وشركة رابيا)، نستعرض في هذا الموضوع أهميَّة عدم المبالغة في الوقاية من التحرُّش، والتنبه لآثارها السيئة عليكِ وعلى أبنائكِ.
الإزعاج والتشكيك والخوف:
إنَّ تجنُّب سلوك الوسواس في الوقاية لا يقل أهميَّة عن أمر الوقاية نفسه، فمن الأمَّهات من تسأل ابنتها البالغة من العمر عشر سنوات كل يوم بعد عودتها من المدرسة أو من أيّ مكان تذهب إليه إن كان أحد قد مسَّها أو لمسها أو تحرَّش بها أو حاول الاعتداء عليها، ولا تكتفي بذلك بل تقوم بفحصها أحياناً فحصاً جسدياً بحثاً عن آثار الاعتداء الذي تخشاه أو تتوقَّعه، وقد تراقبها يومياً من النوافذ، وتكرر الاتصال بها للتأكُّد من الطَّريق الذي مشت به، وإذا تعرَّض لها أحد أثناء سيرها أو اقترب منها بصورة أو بأخرى، وتوصيها مراراً وتكراراً بالحفاظ على جسدها، وعدم الاقتراب من المناطق المزدحمة، والابتعاد تماماً عن المناطق المعزولة، كما أنَّ الأمَّهات من كثرة ما يسمعنه عن حوادث التحرُّش والاعتداء الجنسيّ وخطف الأطفال واغتصابهم وقتلهم أحياناً، ربما يعمدن إلى منع أبنائهنَّ وبناتهنَّ من الخروج نهائياً من البيت، مع تحذيرهم من كل شيء يقترب منهم أو يحيط بهم.
زراعة الخوف وعدم الأمان:
هذا النموذج قد يتكرر بصورة أو بأخرى وبدرجات مختلفة بين نسبة غير قليلة من الأمَّهات، حيث تظن الأم أنَّها تقوم بواجب الأمومة على خير وجه، في حين أنَّها تزرع في ابنتها بذور الوسواس والشَّك تجاه مسألة العذريَّة، وتجاه الأخطار المحيطة، وتجاه الرجال "المتوحشين" أو "الحيوانيين"، ولا نتوقَّع بعد ذلك نمواً نفسياً طبيعياً لهذه الفتاة التي مارست معها أمَّها ما نسمِّيه "فرط الوقاية" أو "الوقاية الوسواسية"، بل على العكس، فمثل هذه الأمور قد تدمِّر نفسيَّة البنت الصغيرة، وتشعرها بأنَّها تحمل جسداً يشكِّل لها مصدر رعب وفزع في حياتها، وأنَّها مستهدفة في الطُّرقات، وقد تشعر البعض منهنَّ بأنَّ أمهاتهنَّ يشككن بهنَّ، ويردن تعكير صفو حياتهنَّ وإخافتهنَّ بشكل دائم، وكلُّها أمور لا تحمد عقباها.
كما أنَّ الإفراط في الوقاية قد يكون موقفاً مرضيّاً يكوِّن في عقل الطِّفلة صورة مرعبة وغير حقيقيَّة عن العالم المحيط بها وعن الناس، وهذا يحول بينها وبين الإحساس بالأمان، ويحول بينها وبين الثقة بأيّ أحد من الناس.