التشكيلية السعودية فاطمة النمر: السجاد عالم ينطق بالحكايات

التشكيلية السعودية فاطمة النمر
التشكيلية السعودية فاطمة النمر

اتَّخذت أعمالُ فاطمة النمر بُعداً فنياً متفرِّداً، يعيدُ تعريفَ الفلكلور المحلي، والقضايا النسويَّة عبر وسائطَ متعدِّدةٍ، في مقدِّمتها الرسمُ على السجَّاد الذي كان بالنسبةِ لها أكثر من مجرَّد حِرفةٍ تقليديَّةٍ، وقطعةٍ فنيَّةٍ، إذ شكَّل خطوةً لإعادةِ إحياءِ تراثٍ عريقٍ، يحملُ في تفاصيله كثيراً من الإبداعِ، والعمقِ، والروح من خلال التوثيقِ البصري والروحي لسير نساءٍ سعودياتٍ بوصفه عنصراً أساسياً في حكاياتها البصريَّة.

فاطمة النمر

لوحة غالية البقمية في جاليري تريف في لندن

 


كانت فاطمة، تضعُ نفسها في أعمالها بطلةً لرواياتٍ مستوحاةٍ من التراث، أو شخصيَّاتٍ تاريخيَّةٍ ملهمةٍ، لأولئك اللاتي غزلن نسيجَ التاريخِ بوجودهن. كلُّ خيطٍ، هو شهادةٌ، كلُّ لونٍ، هو شعورٌ، وكلُّ رمزٍ، هو قصَّةٌ لتجربةِ المرأة، وشغفها، وقدرتها على تجاوزِ المستحيل، لتجعلَ من كلِّ سجَّادةٍ فنيَّةٍ امتداداً لهذه القيم، وجسراً بين التراثِ السعودي، والتعبيرِ الفنِّي المعاصر في رؤيةٍ، استمرَّت في الابتكارِ لخلقِ مساحاتٍ، يتلاقى فيها المحلي بالعالمي.

في بدايةِ اتِّجاهها للرسمِ على السجَّاد، كانت النمر على يقينٍ بأن السجَّاد ليس مجرَّد قماشٍ، يُنسَجُ بالخيوط، بل وأيضاً تاريخٌ يتنفَّس، وعالمٌ ينطقُ بالحكايات. تقولُ عن ذلك: «فكرةُ السجَّادة الفنيَّة التي تحكي قصصَ النساء، جاءتني بوصفها حواراً صامتاً بيني وبين الماضي حيث توقَّفتُ أمام روايةٍ فارسيَّةٍ قديمةٍ. كان الملوكُ في زمنٍ بعيدٍ، يعمدون إلى تخليدِ أنسابهم عبر شجرةِ العائلة التي تُنسَجُ على السجَّاد الحريري، وتتشابكُ جذورها في الأرض، وتصلُ فروعها إلى سماءِ المجدِ والخلود».

وتتابع: «هنا وُلِدَت الفكرةُ: ماذا لو حوَّلنا هذا التقليدَ القديمَ إلى نافذةٍ، تُسلِّط الضوءَ على نساءٍ، يعشن في الظلال، لكنْ قصصهن تستحقُّ النور؟ رغبتُ حقاً في استحضارهن من الماضي، من النسيانِ، ومن التفاصيلِ الصغيرةِ المنقوشةِ في ذاكرةٍ، لا تُكتَبُ غالباً! مع المزجِ بين الموروثِ الشعبي، وما يتجاوزُ الزمن لجعلِ كلِّ سجَّادةٍ مرآةً، تحملُ أسماءهن، وأصواتهن، ليشعرَ العالمُ برنين خطواتهن. وقد امتدَّت مسيرةُ البحثِ نحو تسعة أعوامٍ، وثَّقتها عبر معارضَ عالميَّةٍ حول العالم، بدءاً من «ريحانة» في البحرين، وحتى «آرت بازل» في أمريكا».

ولإيمان النمر بأن كلَّ امرأةٍ لديها طاقةٌ كامنةٌ، وإمكاناتٌ هائلةٌ، تساعدها في العطاءِ والتغيير، ترى وتلمسُ في أعمالها انعكاساً لهذه القناعة، إذ تسعى بشغفٍ إلى الإسهامِ في ترك إرثٍ فنِّي، يُضيف لوطنها شيئاً مميَّزاً، يُعبِّر عن قصصه وحكاياته.

هذا كلّه يجعلُ السجَّادةَ ذاكرةً تتنفَّس، وأرضاً تحتفي بالهويَّة، وجسراً يعبرُ بين الحاضرِ والمستقبل. تضيفُ فاطمة: «لقد أردتُ أن تكون أعمالي نافذةً على أرواحِ النساء، أن تتحدَّث بلسانهن، فالفنُّ هو الخلود، والسجَّادُ هو لوحتي، أرسمُ عليها قصصَ النساء اللاتي يُزهرن حتى من قلبِ الصحراء. بدأتُ بالفكرةِ من السجَّاد الذي كان موجوداً في البيوتِ حيث حاولتُ معالجته باستخدامِ موادَّ خاصَّةٍ، جعلته قابلاً لتشرُّب الألوانِ، واستقبالِ الرسومات. هذه المرحلةُ الأولى، كانت تجربةً بحدِّ ذاتها، مرحلةُ استكشافِ الخامة وملمسها، وكيف يمكن تحويلُ السجَّادةِ إلى لوحةٍ، تنبضُ بالحياةِ والقصص. بعد ذلك، تطوَّرت الفكرة، وبدأتُ أصنعُ، وأصمِّمُ نقوشَ سجَّاداتٍ بمقاساتٍ خاصَّةٍ، وبخاماتٍ بينها الحريرُ الطبيعي، مع إضافةِ تفاصيلَ، وخاماتٍ، تعطي العملَ بُعداً أعمقَ وأكثر تفرُّداً. لم يكن الأمرُ تجربةً فنيَّةً فقط، بل ورغبةً أيضاً في أن تكون لكلِّ سجَّادةٍ قصَّةٌ، تحملُ سير النساءِ الواقعيَّة، وتُجسِّد التراثَ والهويَّةَ بلمساتٍ حديثةٍ وشخصيَّةٍ».

وتستطردُ النمر: «اخترت أن أطوِّرَ هذا الفنَّ بطريقتي الخاصَّة، وأن أضفي عليه أسلوبي الذي يربطُ بين العمقِ التراثي، ورؤيةٍ معاصرةٍ، تُظهِرُ السيرَ الشخصيَّة للنساءِ وقصصهن. وبعد تسعة أعوامٍ من البحثِ في الألوانِ، والتقنيَّات، تحوَّلت الموادُّ التي أستخدمها من مجرَّد خاماتٍ إلى وسيلةٍ لإبرازِ أصالةِ ثقافةِ المنطقة من ملابسَ، ورموزٍ، تُعبِّر عن كلِّ شخصيَّةٍ بكلِّ قطعةٍ. وما يُميِّز هذا النوعَ من الفنِّ، هو مزجه بين الموروثِ والحداثة، لتصبح كلُّ سجَّادةٍ قطعةً خالدةً، ونافذةً، تروي حكايةً عميقةً بأبعادٍ مختلفةٍ».

الموروث الشعبي

 

لوحة لسلطانة وهي معلمة من القطيف


وحول إمكانيَّة استثمارِ فنِّ الرسمِ على السجَّاد في إبرازِ الموروثِ الشعبي السعودي، تعتقدُ النمر، أن «الموروثَ الشعبي لا يقتصرُ فقط على الأشكالِ، والألوانِ المألوفة، فالموروثُ الحقيقي، يكمن أيضاً في القيمِ، وفي التجاربِ الحيَّة التي نتنفَّسها في كلِّ مكانٍ، ويُترجِمُ ذلك إلى ذائقةٍ فنيَّةٍ مُعاشةٍ، لذا لا بدَّ من العملِ على كلِّ ما يُطوِّر هذا الموروث مع الاحتفاظِ في الوقتِ نفسه بموقعه. هذا المجالُ، الذي يرتبطُ بالأرضِ وطوابعها، يجبُ أن يكون النافذةَ التي تُبرِزُ جوهرَ الموروث بكلِّ حيويَّةٍ ومرونةٍ. نحن نحتاجُ إلى الربطِ بين الأسلوبِ الزخرفي، وبين القصصِ الحيَّة التي لا تُحكى بالكلماتِ فقط، بل وأيضاً عبر الأدواتِ التي يرتديها الوطن».

وترى فاطمة، أن «كلَّ سجَّادةٍ، يمكن أن تنقلَ صورةً متجدِّدةً وعصريَّةً عن التفاصيلِ الشعبيَّة للنساءِ السعوديَّات في الماضي والحاضر، وهذا ما يُعزِّز فرصَ هذا الفنِّ». وتؤكِّدُ: «إنها أكثر من مجرَّد قطعةِ ديكورٍ. إنها استثمارٌ ثقافي، اجتماعي، وجمالي، يمكن من خلاله استحضارُ مفرداتِ الحكايةِ من أبعادٍ فنيَّةٍ، وربما ستظلُّ هذه التحوُّلاتُ الفنيَّة مرآةً، ونافذةً لهذا التفاعلِ المستمرِّ بين الأصالةِ والحداثة». وتكشفُ: «أحدُ أبرزِ الأعمالِ التي حصدت أصداءً واسعةً وإعجاباً، كان ذلك الذي يرتبطُ بالمرأةِ وسيرتها العميقة. كانت السجَّادةُ الفنيَّة التي حملت رموزاً نسويَّةً مستوحاةً من التراثِ المحلي حيث قدَّمتُ خلالها صورةَ المرأةِ بوصفها جزءاً لا يتجزَّأ من الحكايةِ الثقافيَّة للمجتمع».

نفترح عليك متابعة هذا الحوار مع الفنان السعودي إبراهيم الألمعي

 

"السجّاد هو لوحتي، أرسم عليها قصص النساء اللاتي يزهرن حتى من قلب الصحراء"

 

 


يوم التأسيس

من لوحات فاطمة

 


يومُ التأسيس، يُشكِّل فرصةً لفاطمة النمر، مثل كلِّ الفنَّانات السعوديَّات، لتحقيقِ هذا الاتِّصالِ بين الفنِّ، والهويَّة الوطنيَّة، إذ يثيرُ داخلها شعوراً بالفخرِ والانتماء، ويُحفِّزها على تقديمِ أعمالٍ، تعكسُ عمقَ الهويَّة السعوديَّة، وروحَ المرأةِ التي كانت دائماً جزءاً من بناءِ هذا الوطن.

تُكمِلُ فاطمة: «أرى في هذا اليومِ فرصةً للاحتفالِ بالتراثِ والثقافة من خلال أعمالٍ فنيَّةٍ، تحملُ تفاصيلَ، تُعبِّر عن قصصنا وحكاياتنا، ومن بين الأعمالِ التي قدَّمتها في هذه المناسبة سجَّادةُ «سلطانة»، وهي مشروعٌ، يتكوَّن من ستِّ قطعٍ، استلهمتُ تفاصيلها من قصَّةِ وتراثِ المرأةِ السعوديَّة، واستخدمتُ فيها الحريرَ الطبيعي، والزخارفَ التراثيَّة مع رموزٍ مستوحاةٍ من النخيلِ والملابسِ الشعبيَّة في إشارةٍ إلى جذورنا العميقة، وتفرُّد بيئتنا الثقافيَّة. العملُ كان بمنزلةِ نافذةٍ، تنطقُ بتجاربِ نساءٍ، هن جزءٌ لا يتجزَّأ من روايةٍ وطنيَّةٍ ممتدَّةٍ، وقد حظي بصدى واسعٍ لما حمله من تفاصيلَ أصيلةٍ، ومشاعرَ صادقةٍ، وتمَّ تحويله إلى سبيكةٍ من ذهبٍ، تُقدَّم هدايا لشركاتٍ كبرى. بالنسبة لي، يومُ التأسيس، يُلهمني لإظهارِ كيف يمكن للفنِّ أن يكون سجلاً بصرياً للتاريخ، يعيدُ إحياءَ تراثنا بأبعاده الإنسانيَّة».

التعبير عن الهوية والتراث

 

لوحة قلم وسيل

 


مصادرُ إلهامِ وإبداعِ النمر، تنبعُ من إيمانها العميقِ بدورِ الفنِّ بوصفه وسيلةً للتعبيرِ عن الهويَّة والتراث، ورغبتها المستمرَّة في تسليطِ الضوءِ على قضايا المرأة، وإبرازِ قيمتها الحقيقيَّة. أمَّا الإبداعُ بالنسبةِ لها، فهو رحلةُ تعلُّمٍ دائمٍ، وكلُّ تحدٍّ واجهته، ترك بصمةً في مسيرتها، وأكَّد لها أن الثقةَ بما نصنعه الخطوةُ الأولى نحو تقديمِ فنٍّ ذي قيمةٍ ومعنى. تلك اللحظاتُ التي أدركت فيها أن العملَ الفنِّي، يمكن أن يحملَ رسالةً، وأن يكون نافذةً للتواصلِ الإنساني، كانت الدافعَ الأساسَ لتطويرِ أسلوبها الخاص.
أخيراً، حالةُ الفنَّانة فاطمة النمر مع الفنِّ، كانت دعوةً داخليَّةً لفهمِ العالم الذي تعيشه. كانت معركةً مع تساؤلاتٍ لا تنتهي عن هويَّتها وحضارتها منذ الصغر. تقولُ: «كنت أغرقُ في عالمِ التفاصيل، في النماذجِ الشعبيَّة من حولي، والنمطِ التقليدي الذي كان يُشبِعُ ذائقتي. موهبةُ الرسمِ بدأت بالنموِّ في داخلي منذ أن اصطفَّت فرشاتي بشكلٍ بدائي. قد يكون الأمرُ صعباً، لكنْ كلُّ ما وجدته في رحلتي، هو جمالٌ في رفضِ الحدود. عثرتُ على فنِّي في العمقِ الأصيلِ للثقافة، وفي نسجِ الحكاياتِ التي يُخبِّئها لنا الزمن».

ومن عالم الفن التشكيلي أيضأً اخترنا لك اللقاء مع الفنانة التشكيلية السعودية دانا التركي


شخصيات نسائية سعودية

 

النمر مع لوحة لشخصية الحبابة التي تقوم برواية القصص 1 للأطفال


نجحت فاطمة، وخلال ستَّة أعوامٍ من البحث، في توثيقِ عددٍ كبيرٍ من الشخصيَّات النسائيَّة، إذ تصدَّرت كلُّ شخصيَّةٍ عملاً فنياً من قطعِ السجَّاد. وهن في الواقعِ شخصيَّاتٌ حقيقيَّةٌ، يملكن قصصاً، وبطولاتٍ، خلَّدها التاريخ، وينتمين إلى مناطقَ سعوديَّةٍ مختلفةٍ، منهن غالية البقميَّة، رمزُ المقاومةِ والشجاعةِ في تاريخِ الدولة السعوديَّة الأولى حيث لعبت دوراً حاسماً في التصدِّي للحملاتِ العثمانيَّة بخطاباتها الملهمةِ التي استنهضت بها هممَ رجالِ قبيلتها، فقادوا معركةً مصيريَّةً، انتهت بهزيمةِ العثمانيين في محافظةِ تربة. ومن منطقةِ نجد أيضاً، تبرزُ لوحةٌ للشاعرةِ الضريرة هاجرة المختصَّةِ بالشعرِ النبطي، والمشهورةِ بحكمتها، ما جعلها مقصداً لشيوخِ القبيلةِ من أجل استشارتها. كذلك وقع الاختيارُ على موضي البسَّام التميمي، وهي من الأعلامِ النسائيَّة في منطقةِ عنيزة، وعاصرت عديداً من الأحداثِ التاريخيَّة، وكانت مضربَ مثلٍ في قوَّةِ الإرادة، وعملِ الخير.

أمَّا من القطيف، مسقطُ رأسها، فاختارت الفنَّانةُ فاطمة النمر عدداً من الشخصيَّاتِ النسائيَّة، منهن أم حسين التي كانت تصدحُ بالأهازيجِ بصوتها الشجي في الموالدِ والأعراس، لتنشرَ الفرحَ في أرجاءِ المكان، ولا يزالُ صدى صوتها يعيشُ في ذاكرةِ أهل القطيف بوصفه جزءاً من هويَّة المنطقةِ التراثيَّة. وهناك لوحةُ «الحبَّابة» التي تجمعُ الأطفالَ قبل النوم لتروي لهم حكايةً.

وفي لوحةٍ أخرى من السجَّاد، وثَّقت النمر قصَّة «شهربان»، وهي سيِّدةٌ ضريرةٌ من العواميَّة، وُلِدَت عامَ 1950، ولم يمنعها فقدانُ البصرِ من أن تصبحَ معلِّمةً ومربِّيةً، تعلِّمُ الصغارَ الحروفَ الأولى، وتنقشُ فيهم حبَّ الحكمة. في كلِّ بيتٍ، مرَّت به، تركت أثراً خالداً، وفي كلِّ قلبٍ علَّمته، زرعت حروفاً لا تُمحى.

أيضاً وثَّقت النمر بفنِّها رائدةَ قصيدةِ النثر في السعوديَّة الدكتورة فوزيَّة أبو خالد، وهي شاعرةٌ، وكاتبةٌ، وأكاديميَّةٌ، وباحثةٌ في القضايا الاجتماعيَّة والسياسيَّة.

وللفنَّانةِ لوحةٌ بعنوان «العزَّة»، وهي لسارة بنت أحمد السديري التي يُرجَّح أنها وُلِدَت في العقدِ السابع من القرنِ الـ 13 الهجري في الأحساء. وتعدُّ أسرة السديري من أشهرِ الأُسَر التي أدَّت دوراً سياسياً مؤثِّراً في الجزيرةِ العربيَّة، وتولى كثيرٌ من أفرادها مناصبَ إداريَّةً مهمَّةً في الدولةِ السعوديَّة عبر أطوارها التاريخيَّة.

يمكنك متابعة الموضوع على نسخة سيدتي الديجيتال من خلال هذا الرابط

شخصية نسائية تتصدر لوحة من السجاد لفاطمة