كأي طفل تربّى وترعرع في كنف الحواري، وليس أمامه مساحة للعب وممارسة هواية كرة القدم، إلا في هذه الحواري، فلم يكن هناك نادٍ يجمع بيني وبين هوايتي هذه، وكانت بمثابة الجريمة حينما يراني أبي وأنا أركل هذه الكرة يُمنة ويُسرة، وتشتد هذه الجريمة وتتضاعف العقوبة، عندما ينتج عن ركلي هذا، كسر في نافذة جارنا، الذي كان لديه قاموس طويل من السب واللعن، فيعاتب أبي عتابًا عنيفًا، ويتهمه بأنه دللني وأفسد أخلاقي، وبالفعل ينتج عن هذا التعنيف ردة فعل قوية من أبي، من أعراضها التلطيش والزجر والتهديد بأنه سيحرمني من كل مميزات الابن البار، فلم يكن أبي يدرك مدى تعلقي بهذه اللعبة، فهي كل حياتي، فقد كنت كلما ادّخرت قرشًا، وأصبح لدي ثمن كرة قدم، أذهب على الفور لشرائها، ناهيك عن متابعتي المحمومة لكل ما يخص هذه اللعبة من لاعبين ومن مسابقات، ومشاهدة المباريات، لكن أبي كان دائم الصراخ في وجهي: «كفاية لعب»، «مش عايز أشوف في إيدك كورة»، وبالفعل نجح أبي في إبعادي عن ممارسة هذه الهواية، اتجهتُ للدراسة، وعلى الجانب الآخر، لم يتبق لي من حبي وشغفي بالكرة، إلا متابعتها من بعيد، مرت السنوات، ولم تتغير مشاعري تجاه هذه اللعبة، حتى إنني إذا قرأت جريدة، فهي جريدة رياضية، وإذا تابعت نشرة إخبارية، فلأنها ستتحدث عن مباراة، وفي ليلة كنت أستمع لنشرة الأخبار الرياضية، وإذا بخبر عن انتقال لاعب كرة قدم من فريق لآخر، وكان هذا اللاعب «كريستيانو رونالدو» بمبلغ فاق المائة مليون دولار، وبالمصادفة كان أبي يجلس إلى جواري، فنظرت له نظرة عرف منها ما أود قوله، وأدركت كم كان أبي مخطئًا أنه لم يتركني ألعب، ربما لأنه لا يعلم أن اللعب يُقدّر بالملايين، والعلم لا يكيل أحيانًا إلا بالباذنجان، ولتداركت خطأ أبي في ابني، فملأت البيت بعدد لا تُحصيه العين من الكرات، وأجبرت ابني على اللعب ليل نهار ولقلت له: «العب، مش عايز أشوف في إيدك كتاب»، ولكن للأسف ابني ليست لديه ميول كروية، فهو فاشل، وميوله كلها علمية، ماذا أفعل معه بالله عليكم؟!.. الآن ثمن بيكهام أو رونالدينهو تعدى عشرات الملايين في ملاعب الكرة، أي ما يساوي ضعف مرتبات مائة وزير تعليم.. وببساطة لو سألت أحد شبابنا عن أي شيء نال أحمد زويل جائزة نوبل، أو عن أي شيء نال نجيب محفوظ نفس الجائزة؟ أو حتى من يكون أحمد زويل ونجيب محفوظ؟ ربما أجابك البعض أن أحمد زويل هو لاعب خط الوسط في الأهلي المصري، وأن نجيب محفوظ هو أحسن حارس مرمى في إفريقيا.. ومنذ أيام قليلة كان ولي عهد بريطانيا الأمير تشارلز في زيارة لإيطاليا، وفي قاعة «لوبا» بمجلس النواب، تحدث الرجل مفتخرًا ببلده قائلاً: «نحن بلد العظماء: شكسبير وتشرشل، وكذلك بلد نجم كرة القدم ديفيد بيكهام».. ولذا فأنا مُصر على أن أقول لابني صباح مساء «العب يا ولد».