لا تمتلك المرأة حجة دامغة تدفع بها الاتهامات التي تصفها على مرّ العصور بأنها جاحدة للمعروف، وناكرة للفضل، وأنها متى شعرت بقليل من الضيق والانزعاج تمرّدت على الرجل، وشطبت سجلّه البطولي في سبيل خدمتها وإسعادها، وقلبت الأمور رأسًا على عقب، زاعمة أنها لم ترَ أي يوم أبيض مع زوجها المسكين، مهما كان متفانيًا ومُنكرًا لذاته من أجلها.
وحتى لا تظنّ قارئة «لئيمة» أن هذه مجرد افتراءات يسوقها الكاتب للنيل من المرأة، معتمدًا على افتراضات وأوهام يردّدها الدهماء، أحيلها إلى قصة قديمة عمرها حوالي عشرة قرون، وردت في كتاب «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب» للإمام شهاب الدين المقري التلمساني، حول امرأة تزوجها الأديب الأندلسي المعتمد بن عباد تُدعى «اعتماد» وتلقّب بـ«الرميكية»، وأنجب منها أولاده، وكان متيمًا بحبها إلى درجة أن طلباتها أصبحت «أوامر»، كما يفعل معظم الرجال الذين يتحولون بين عشية وضحاها إلى خواتم في أصابع النساء، وخلاصة القصة أن هذه «الرميكية» كانت ذات يوم ماطر تراقب المارة من إحدى شرفات قصرها المنيف لطرد السأم، فرأت نسوة من القرية يحملن على رؤوسهن جرار الماء وهن يمشين في طريق وعرة بأشبيلية، وقد غاصت سيقانهن في الأوحال، فتملّكتها رغبة جارفة في تقليدهن بدوافع ربما مازوشية أو سادية، بحثًا عن مغامرة تملأ بها وقت فراغها، فطلبت من زوجها المعتمد أن يجلب لها وحلاً صناعيًّا داخل ساحة القصر، لتمارس هواية «التمرّغ» في الطين كما يحلو لها، فلم يجرؤ الزوج «العاشق» على رفض طلبها وتخييب أملها، وأمر بتحقيق أمنيتها بأي طريقة، ومهما يكلف الأمر! وهذا ما حدث بالفعل، حيثُ أحضر العاملون في القصر أجود أنواع العطور وطحنوها في ساحة القصر، ثم صبّوا عليها ماء الورد، وعجنوها بأيديهم وخلطوها، حتى أصبحت مثل بركة من الطين، فتمرغت «الرميكية» وجواريها في هذا الوحل، حتى زال عنها الفضول!
وذات يوم وقع خلاف بين المعتمد وزوجته «الرميكية»، فغضبت منه بشدة، وأقسمت أنها لم ترَ منه خيرًا قطّ، فأنعش ذاكرتها بقصة الطين، وكيف أنه سخَّر لها كل العاملين في القصر، لمجرد أنها أرادت أن تجرّب شيئًا غير مألوف، فتراجعت على الفور عن موقفها العدائي، وطلبت الصفح من زوجها، لكن عودة «الرميكية» إلى رشدها، وإنصاف زوجها، واعترافها بالمعروف والإحسان، هو الذي جعلها تدخل التاريخ، وحوّلها إلى امرأة استثنائية، وحتى لا تعترض إحدى الأخوات «المفتريات» على هذه القصة، وتُرجع رضوخ عاشق «الرميكية» إلى ترف الملوك والسلاطين، الذين يستطيعون تسخير كل شيء في الدنيا لتقليعات نسائهم الغريبة.. أذكر قصة أخرى رواها لي أحد الأصدقاء الذين يسخّرون كل إمكاناتهم المادية والمعنوية -مهما كانت متواضعة- لإرضاء زوجاتهم، حيثُ يقول إن زوجته ذات مرة طلبت منه أن يشتري لها جوادًا عربيًّا أصيلاً، مع لوازمه مثل السرج والملابس والحذاء والخوذة، وأن يستأجر إصطبلاً خاصًا بها لتمارس هواية ركوب الخيل، بِنيّة تعليمها مستقبلاً لأبنائهما امتثالاً للتوجيه النبوي الكريم.
وبعد أن حقق المسكين طلبات محبوبته بشق الأنفس، وجاء وقت تحقيق حلمها، نظرت إلى الجواد مطولاً، لتكتشف أنها لم تتوقع أن يكون حجمه كبيرًا إلى هذه الدرجة، فصرفت النظر عن الأمر برمته خوفًا من السقوط والتعرّض لإصابات خطرة، وفي غمرة إحباط الزوج وتفكيره في الأموال التي خسرها في هذه التجربة الفاشلة، عرض عليها أن يُحضر لها «بغلة» مؤقتة تتعلم منها المبادئ الأساسية، قبل الانتقال إلى مرحلة الجواد، فأجابته ببرود شديد، قائلة: «البغلة لا يركبها إلا أمثالك!».
ورغم الضيق الذي شعر به صديقنا إلا أنه استفاد من قصة الحصان، كما استفاد المعتمد من قصة الطين، وأصبح يُلجمها بها كلما بدا منها جحود المعروف ونكران الجميل.. ومن المؤكد أن كل رجل يحتفظ بمُستمسكات مشابهة على زوجته، ومن هذا الباب أقترح على الأزواج أن يخصصوا يومًا في العام لتذكير زوجاتهن بما فعلوه من أجلهن، لتتعود المرأة على مراجعة نفسها، ولو لمرة واحدة في العام، وتتدرب على الاعتراف لأهل الفضل بفضلهم، ولأصحاب المعروف بِمعروفهم كما فعلت «الرميكية» بشجاعة نادرة! وستكتشف المرأة عاجلاً أو آجلاً أن تذكير الرجل بتضحياته من أجلها ليس الغرض منه إذلالها أو التقليل من شأنها، بل خوفًا عليها من عذاب جهنم، أما إن وَجد الرجل ممانعة ومقاومة من المرأة، بذريعة أنها الطرف المدلّل، وأن كل ما في الدنيا وُجد لإسعادها، وأن اعترافها بالفضل يُكسبها سمات ذكورية لا تليق بها، فليس عليه إلا أن يذكّرها بأن ما عند الله خير وأبقى وأنقى وأتقى!