أن
يقدم الدكتور سلطان بن محمد القاسمي على كتابة سيرته الذاتية في كتاب «سرد الذات»، فذلك أمر قد يبدو مفاجئا للبعض، على الأقل بالنظر للوضع الاعتباري للرجل؛ إلا أن هذه المفاجأة سرعان ما ستتبخر، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار طبيعة الحضور الأدبي والثقافي والعلمي والفكري لهذا الكاتب، وإسهامه اللافت والمؤثر في تحريك المشهد الأدبي والثقافي في الإمارات العربية المتحدة، فضلا عن تمرسه الطويل بالكتابة والتأليف، هو الذي له باع طويل في مجال اهتماماته الثقافية والعلمية المختلفة، وله في هذه المجالات جميعها مجموعة من المؤلفات المنشورة.
يحتوي كتاب «سرد الذات» على عديد من الحكايات الذاتية والغيرية والواقعية والتاريخية، وعديد من المشاهد والمواقف والذكريات الطريفة، فضلا عن تضمينه معارف تاريخية وسياسية وثقافية واجتماعية وتعليمية وعمرانية، يسوقها هذا الكتاب عن الإمارات والخليج والبلاد العربية بشكل عام، وحكيه عن بعض العادات والتقاليد التي عرفها مجتمع الشارقة إبان الفترة الزمنية التي تؤطر أحداث هذه السيرة الذاتية، أي على مدى تسعة وعشرين عاما.
نلاحظ، إذن، ومنذ قراءتنا لعنوان هذا الكتاب «سرد الذات»، تحقق «الميثاق الأتوبيوغرافي» فيه بشكل جلي، أي باعتباره سيرة ذاتية لكاتبها، بل إن العديد من القرائن الحكائية تؤشر على مدى تحقق المكون الأتوبيوغرافي في هذا النص، كما تقتضي ذلك بعض شروط الميثاق الأتوبيوغرافي، وذلك من قبيل البدء بالحكي عن مرحلة الولادة، كما في قول السارد/ الكاتب: «ولدت يوم الأحد في الرابع عشر من جمادى الأولى سنة 1358، الموافق السادس من يوليو سنة 1939...» (ص7)، ثم فترة الطفولة، حيثُ جاء الفصل الأول من هذه السيرة الذاتية معنونا بـ«أيام الطفولة»، وفيه يقدم السارد/الكاتب حكايات متناسلة عن طفولته، من قبيل حكيه عن أجواء الحرب العالمية الثانية، تلك التي وعى السارد أحداثها، وهو لم يبلغ بعد الخامسة من عمره، كما عاين بعض أحداثها في مسقط رأسه بالشارقة، فضلا عن حكاياته عن البيت الذي كان يسكن فيه، وبيت عمه المهجور، وحصن الشارقة، وغيرها من الحكايات والتذكرات التي تتطور في النص مع تنامي المحكي السيرذاتي فيه.
ويتبين من خلال عناوين فصول هذه السيرة الذاتية ومحكياتها، أن ثمة تعددا في فضاءاتها، وأبطالها، وأحداثها، وحكاياتها، وهو ما يحد من هيمنة المكون الأتوبيوغرافي فيها ومن سطوته، مما يضفي زخما خاصا على محكياتها الموازية، وهو الأمر نفسه، ربما، الذي دفع بالكاتب في مقدمة كتابه إلى أن يبرر سبب كتابته لهذه السيرة في قوله: «كتبت هذا الكتاب لأوثق فيه تاريخ أهلي وبلدي، على مدى تسعة وعشرين عاما»(ص5).
ومن بين أهم ما يميز هذه السيرة الذاتية كونها تبدو مكتوبة بطريقة جديدة، بحيث لا تخضع كليا لمنطق كتابة السيرة الذاتية، كما هو متعارف عليه، حيثُ تهيمن البنية العائلية في هذه السيرة الذاتية، من حيثُ جمعها لعدد وافر من أفراد عائلة السارد وأقربائه، بشكل يصعب معه أحيانا ضبط شجرة الأنساب فيها، وبالتالي تتبع علاقات القرابة والوشائج بين الأشخاص فيها. كما أن ما يميز هذه السيرة كونها تقدم أحداثها وحكاياتها من منظور سارد موثوق به، يستقي محكيه السيرذاتي من مخزون ذاكرة يقظة وحية، تتوسل بالتفاصيل الزمنية وبالتواريخ والأيام؛ للإيهام بالطابع الواقعي لهذا المحكي الذاتي، بما في ذلك إدراج بعض الصور الفوتوغرافية المرتبطة ببعض أحداث المحكي وشخوصه.
من المؤكد أيضا، وهذا ما يمكن تحسسه من خلال سياقات بعض الوقائع في هذه السيرة الذاتية، أن ثمة فراغات وبياضات فيها، على الأقل من زاوية عدم حكيها عن وقائع أخرى ذاتية وموضوعية، قد تكون لها أهمية قصوى في إضاءة المرحلة وملابساتها، ربما قصد الكاتب التغاضي عن سردها، لاعتبارات لها صلة بموقع السارد/الكاتب، كواحد من العائلة الحاكمة في الإمارات، وكأمير، وكحاكم لإمارة الشارقة، أخذا بعين الاعتبار كون هذه السيرة الذاتية توقف سردها عند تولي سلطان القاسمي إمارة الشارقة.
وبقدر ما تضعنا هذه السيرة الذاتية وسط فضاء من المقارنات، وتبدل المصائر، أي بين ما كانت عليه الإمارات العربية في النصف الأول من القرن الماضي، وما آلت إليه بعد ذلك -بقدر ما تبدو سيرة ذاتية مفتوحة على استحياء- فضاءات وجغرافيات موازية، تتمثلها هذه السيرة وتتفاعل معها، من زاوية إبراز دورها المؤثر في حياة السارد/الكاتب، وفي تشكل وعيه السياسي والثقافي العام، وخصوصا من خلال استرجاعه لبعض أسفاره، ورحلاته إلى مجموعة من البلدان، كالبحرين ومصر وإيران والسعودية والكويت وقطر والهند. وتشغل مصر حيزا لافتا في هذه السيرة الذاتية، اعتبارا لما شهده هذا القطر من أحداث تاريخية مؤثرة، عايشها السارد وشارك في بعضها، وبما كان له أيضا من تأثير كبير، وقوي في شحن مدارك السارد حول تفاعل الأمور وتطورها من حوله.
نتتبع، إذن، في هذا الكتاب سيرة ذاتية كتبت بطريقة مغايرة، بما أنها سيرة يتداخل فيها المحكي الذاتي بالمحكي الموضوعي، والسيرة باليوميات والمذكرات والبورتريهات، والرحلة بالشعر والخبر، والخطاب التراسلي وسير المدن والمعالم والأشخاص، وهو ما يجعل منها سيرة ذاتية شمولية، بكل ما يحمله هذا اللفظ، هنا، من زخم في الحكايات والدلالات والرموز والمعاني، ومن تكثيف لافت في تقنيات التذكر والكتابة والسرد... ونقاء العبارة