اليوم عيد ميلادي، اليوم أتم أربعة وخمسين عامًا بالكمال والتمام، ومازلت خارج مائك أتخبط كسمكة.
يتدلى العنقود فوق فمي بسنتيمترات، كلما اقتربت ابتعد؛ لكي تظل بيننا نفس المسافة.
اليوم أتخفف من ملابسي وأنزل الماء الدافئ، أسماك المرجان الحمراء تلعب بين قدمي، أخرج من الماء أتشح عباءة أرجوانية وصندلا دمشقيا وعمامة مغربية. أخطو فوق العشب إلى مغارة جبلية، أحفر في جداره اسمي وتاريخ ميلادي.
اليوم أنتصر لنفسي، أشتري ثلاثة أرطال من الموز، ورطلين من جوز ولوز، وأحتفل بي وحدي.
أنفخ شمعا لا ينطفئ، تظل سنواتي كلها مشتعلة.. نارا في الذاكرة، وحريقا في الجسد.
الشوق وحده جحيم، لكنه ألطف الجحيم.
خارج بابك تنهمر الذكريات، ويبتل معطفي حتى آخر خيط في نسيجه، يبتل قميصي وثيابي الداخلية، يبتل جوربي ويعوم في حذائي الممتلئ كبركة.. يتحول طرقي الحنون إلى عاصفة من طرقات وحشية:
- افتحي الباب يا حياة!
< < <
اليوم عيد ميلادي، أتممت أربعة وعشرين عامًا بالكمال والتمام، أنا شاب كما ترون، أربعة وعشرون.. بالكاد أخطو عتبة الحياة الواسعة، دون جدار أستند إليه.
اليوم كسرت رمانة قلبي، وفرَّطتُ الحَبَّ فانفرط، وطار إلى جحرك يا حياة.
وضعتهِ في طبقين محلَّى بالماء والسكر، وجلست في قبالتك نأكل ملعقة بملعقة. تحدثنا في أشياء فارغة، لكني ما زلت حتى الآن أتذكر ذلك المذاق البعيد.
حَبّ الرمان.. فرْط الرمان، كلمات تنتمي لعالم ولَّى، بعد عشر سنوات أخرى لن أجد طعامًا أستطيع مضغه إلا الخبز المبتل والمهلبية والبالوظة، ساعتها أبتسم للدنيا بطاقم أسنان صناعية، وأبارك أحفادي وأقرأ آية الكرسي رقية لهم ويدي على رؤوسهم.
يدي على قلبي، أسمع اندفاق الماء الحار بين الصلب والترائب، يدي على قلبي، وقلبي يهمس لها:
-انفتحي أيتها اليد، هبي شيئًا شيئًا، افعلي شيئًا.. أي شيء، فات من الأيام والليالي عشرون ألفًا، ضاع أكثرها في العبث، انفتحي أيتها اليد وكوني سباقة للخير، معطاءة للندى، حاضنة للعصافير مكسورة الجناح، منبسطة بالحَبِّ للحمام واليمام، مربِّتة على الخد، وعلى شعر البنات والأولاد.
انفتحي أيتها اليد ثم انقبضي، واجعلي قلمك بين السبابة والوسطى، انقبضي عليه لينبسط الكلام، كحصيرة الصيف، ويحلو ليل السمر.
انفتحي أكثر، واطلبي مساعدة يسراك، فاحملا الجرة واسقيا الناس جميعا.
< < <
- هذه تهيؤات، يا صاحب عيد الميلاد المحترم.
- من أين يأتي هذا الصوت؟
- أنا يدك اليمنى، قربني من أذنك كي تسمع أفضل
- أسمعك جيدًا حيث أنت، لم أبلغ هذا المَبلغ من الشيخوخة بعد، مازلت محتفظًا بسمعي والحمد لله، والآن: ماذا تريدين؟
- أقول إنك واهم.. مخدوع
- نعم؟.. ماذا قلت؟
- قلت لك قربني من أذنك!
- آسف.. لست أسمعك
- قربني من أذنك!!!
- طيب.. لماذا تصرخين هكذا؟ أنا لست أصم.
- سأرفع نفسي بنفسي إلى مقامك الأعلى (تصعد اليد نحو أذنه وتواصل حديثها) هل تسمعني الآن؟
- كنت أسمعك طوال الوقت.
-ليكن.. خلاصة القول يا عجوزي العزيز، لا تحلم بما يفوق صحتك، اكتب ـ نعم ـ لكن مسألة الجرار المملوءة بالماء انسها تماما، أنا شخصيًا لن أورط نفسي في حمل أية جرار، وخلِّ يدك اليسرى تنفعك!
< < <
يقترب الكلام من نهايته.. ولست نادمًا على شيء مما قلت أو فعلت، لقد نام الحبيب على صدري كطفل، ومازلت لا أستطيع أن أتحرك كي لا أوقظه.
< < <
ليلة ميلاد: كروان أم حشرة؟ شيء يولد الآن.. في الرابعة والخمسين من عمره.
للتفاعل مع الكاتب عبر sms أرسلوا: بهاء ثم فراغ ثم الرسالة إلى الرقم: 80833 (السعودية)