منذ كانت صغيرة، وجدت الدكتورة دلال الراجح في نفسها ميلاً خاص نحو عالم الرياضيات حيث ارتبط في ذهنها بالمنطق والتحليل والبرهان، وكان هذا العالم بالنسبة لها مثل اللغز الذي تشعر بمتعة الإنجاز حين تفك رموزه، واليوم كبرت الصغيرة ودرست واجتهدت وقطعت مشواراً علمياً طويلاً أوصلها أخيراً إلى لندن وإلى غرفة الأساتذة في جامعة إمبريال كولج Imperial College لتتبوأ موقعاً مرموقاً كباحثة ومحاضرة وأستاذة مساعدة.
لها عدد من المقالات والبحوث العلمية في هندسة البرمجيات والذكاء الاصطناعي والمنطق الاستقرائي وعلم الجريمة والطب الشرعي والأمن السيبراني منشورة في عدد كبير من المجلات والصحف والدوريات العلمية الرصينة. كما حضرت وشاركت في المؤتمرات والتجمعات العلمية في عدد كبير من الدول.
في غرفتها الواقعة في أحد الطوابق العليا من الجامعة اللندنية العريقة كان لنا معها هذا الحوار:
تصوير: أندرو كيمبر Andrew Kimber
الانتقال من الطب إلى علوم الحاسب
متى وجدت في نفسك الرغبة لدراسة الرياضيات؟
لقد شعرت بهذا الميل نحو الرياضيات وأنا في بداية المرحلة الثانوية، حيث كنت أجد متعة في هذا الدرس وتستوقني المعادلات الصعبة التي كنت أجتهد من أجل أن أجد لها حلولاً علمية وبطرق مختلفة في بعض الأحيان، وكنت أفرح في داخلي حين تطلب مني المدرّسة ان أبرهن إحدى النظريات وأدخل مع نفسي في تحدٍ يوصلني في النهاية إلى ما أريد، ومن جانب آخر لم أجد في نفسي ميلاً كبيراً للدروس الأدبية مع أنني كنت متفوقة في الدروس كلها، وهذا التفوق هو الذي كان يجعل مدرّستنا العزيزة شيخة الماضي تتساهل معنا وهي تراقب مشاكساتنا ومقالبنا البريئة أنا وصديقاتي في الصف؛ فقد كان تفوقنا واجتهادنا هو الذي يدفعها لأن تبتسم وتسامحنا في نهاية الأمر.
ومتى قررت دراسة علوم الحاسب؟
في البداية لم تكن الأمور واضحة أمامي ففي ذلك السن قد لا يكون من السهل اختيار التخصص الجامعي الذي يرغب به الطالب، وقد قضيت نحو سنة ونصف السنة في دراسة الطب بجامعة الملك سعود ولكني راجعت نفسي في السنة الثانية إذ شعرت بأني أفتقد الرياضيات وأحن إلى عالم الأرقام والتحليل الذي هو شغفي الحقيقي وقد أخذ مني هذا بعض الوقت قبل أن أقرر الانتقال من الطب إلى دراسة علوم الحاسب، وقد وافقني والدي رحمه الله على هذا الاختيار لأن المهم بالنسبة له ان تكون لدي شهادة علمية وليس بالضرورة أن تكون في الطب، فقد كان يرى أن الشهادة هي عوني في الحياة وكان يحثني على أن أكون معتمدة دائماً على الله ثم على نفسي، وبذلك بدأت رحلتي مع علوم الحاسب.
وهل ودعت الطب من دون أسف؟
الوالد رحمه الله كان طبيباً في تخصص المخ والأعصاب وكان بالنسبة لي قدوة ومثالاً أحتذي به وبشخصيته الواثقة وتعامله الإنساني مع مرضاه، وقد دخلت كلية الطب اقتداء به ولكنني الآن سعيدة لأني وجدت نفسي أخيراً في علوم الحاسب الذي أخدم من خلاله الناس والمجتمع وليس بالضرورة من خلال الطب والحمد لله ان أخوي الاثنين محمد ويزيد قد اختارا دراسة الطب على خطى والدي ونجحا فيه.
النساء ودراسة البرمجيات
عالم البرمجيات لا يستهوي المرأة العربية، فلماذا اخترت أنت الطريق الصعب؟
التردد والعزوف عن دخول عالم البرمجيات لا يخص المرأة العربية دون غيرها، فعندما درست الماجستير في بريطانيا كنت في دفعة تضم 57 طالباً، منهم سبع نساء فقط، وهذه مشكلة عامة حيث تجد بعض النساء صعوبة في دخول عالم غالبيته من الرجال وتشعر الواحدة منهن بضرورة بذل جهود كبيرة لكي تمتلك صوتاً مميزاً ومسموعاً بينهم، ولكنني شخصياً لم أشعر بذلك، فقد درست في السعودية في مدارس البنات وأكملت الدراسة في جامعة للبنات ولم يكن تركيزنا إلا على علاقتنا ببعضنا كصديقات وعلى دراستنا وتحصيلنا العلمي لذلك لم أشعر عندما سافرت إلى بريطانيا للدراسة بأني من فئة الأقلية، وهذا ما جنبني مشكلة المقارنة، وقد كنت بحاجة لمن ينبهني إلى قلة عدد البنات في الصف كي أنتبه للأمر.
ماذا أعطاك عالم البرمجيات؟
مكسبي الكبير هو دخولي إلى هذا العالم الذي هو فرصتي كي أكتشف نفسي وأفهمها، فمن يتردد ولا يتبع أحلامه وشغفه
أهتم بدراسة بدراسة المنطق والتفاعل بين الهندسة البرمجية والذكاء الاصطناعي
يمكن أن يخسر قدرته على الابداع والتميز ولا بد للإنسان من المغامرة والدخول إلى عوالم جديدة واستثمار الفرص المتاحة واتخاذ القرارات الخاصة به من دون أن يقارن نفسه بالآخرين؛ فأنا لم أدخل هذا العالم رغبة مني في التحدي أو إثبات قدرة المرأة أو البحث عن الريادة لأن ما يثير اهتمامي حقاً هو أن أكون مخلصة بعملي ومتميزة من دون التفكير بالألقاب لأنها ستأتي في نهاية الأمر.
ما هو تخصصك في علوم الحاسب؟
أنا مهتمة بدراسة المنطق والتفاعل بين الهندسة البرمجية والذكاء الاصطناعي، ويتركز بحثي على تصميم تقنيات ذكاء اصطناعي جديدة تهدف إلى تطوير برامج يمكن ضمان عملها بشكل صحيح كما أبحث في كيفية تطوير مناهج هندسة برمجية مناسبة لتصميم أنظمة ذكاء اصطناعي آمنة وقابلة للتكيف، وأنا أعمل في هذا الصدد مع مؤسسات في المملكة المتحدة للمساعدة في بناء أنظمة ذكاء اصطناعي تناسب الأهداف التي بنيت من أجلها وتعمل كما هو متوقع منها في جانب تقديم التوصيات / التنبؤات الصحيحة والتي تتوافق مع القواعد الإرشادية وتساعد البشر في اتخاذ قراراتهم وتشمل هذه التطبيقات مجال الأمن والشرطة، وبالتحديد تصميم برمجيات لحماية الأطفال من التحرش والاستغلال عبر الإنترنت.
وما هي أوجه استخدام الذكاء الاصطناعي؟
أنظمة الذكاء الاصطناعي (AI) هي أنظمة برمجية مصممة لأخذ بيانات رقمية سواء كانت على شكل نصوص أو صور أو أصوات ومن ثم تفسير هذه البيانات ومعالجة المعلومات المستمدة منها وتحديد الإجراء الأفضل الذي يجب اتخاذه لتحقيق هدف محدد، ويمكن استخدام الذكاء الاصطناعي في جوانب علمية وحياتية متعددة منها التسويق والسياحة والتشخيص الطبي واكتشاف الجرائم، وأنا حالياً مستشارة غير متفرغة في وزارة الطاقة السعودية وأعمل مع مجموعة نشطة من المتفوقين في مركز التميز في الذكاء الاصطناعي لتعزيز اعتماده في قطاع الطاقة، ويوجد في السعودية نحو عشرة ملايين عداد ذكي Smart Meter تعمل على تقديم النصائح والوصايا في كيفية التوفير في استخدام الكهرباء وفي الفواتير مع استخدامات كثيرة أخرى.
مقالب الطفولة وامتيازات البنت الكبرى
وما هي اهتماماتك بعيداً عن علوم الحاسب؟
اقرأ الكتب التي تبحث في موضوعات حياتية عامة وأحب الاستماع لأغاني الفنان محمد عبده، وأهوى ارتياد المسارح وممارسة الرياضة وقد حصلت على الحزام الأسود في kickboxing.
وما دور العائلة في حياتك؟
والدي رحمه الله هو الدكتور سعد الراجح استشاري مخ وأعصاب، وقد كان أستاذاً في جامعة الملك سعود، ومن ضمن الفريق الطبي المُشرف على متابعة صحة الملك الراحل فهد بن عبد العزيز آل سعود، وكان حريصاً على توفير فرص التعليم والتفوق لأبنائه وزوجته وكان سندي في كل صغيرة وكبيرة، وأجده إلى جانبي متى ما كنت مترددة في اتخاذ أي قرار فهو الذي يدعمني ويذكرني
أطمح إلى قيادة تطور علمي في مجالي يعود بالفائدة الملموسة على حياة المستخدمين
بأنني قادرة على اتخاذ القرار الصحيح، أما والدتي فهي الدكتورة نورة اليوسف بروفيسورة في الاقتصاد وأستاذة في جامعة الملك سعود، ورئيسة مجلس إدارة جمعية الاقتصاد السعودية، وكانت عضوة في مجلس الشورى في دورته السابعة، وقد تعلمت منها الكثير كأم مثالية أولاً وكباحثة مجتهدة ثانياً ولعل ما يميزها هو الحنان الذي تغدقه علينا نحن أولادها بلا حدود.
أنت البنت الكبرى في العائلة هل منحك هذا امتيازاً؟
لأنني الابنة الكبرى فقد تعودت على تحمل المسؤولية منذ عمر مبكر، وهذا ما غرس في داخلي الثقة في اتخاذ القرار ومواجهة التحديات وكنت ولاأزال قريبة جداً من أخويّ الأصغرين محمد ويزيد، وقد كنت أحياناً أستخدم معهما امتياز الأخت الكبيرة بشيء من التعسف، وكانا يرضخان مرغمين لطلباتي، وعندما كان عمري دون العاشرة كنت أصر على أن أؤمهما في الصلاة، والآن وعلى الرغم من وجودنا نحن الأخوة في أماكن متباعدة بحكم العمل والدراسة إلا أننا نتواصل عبر الهاتف يومياً، ومازلت أحن إلى أيام الطفولة عندما كنت أرتب لهما المقالب المرحة وكانا يتوعداني (برد الجميل يوماً ما)... ومازلت أنتظر!
وما هي طموحاتك وأحلامك المستقبلية؟
أطمح إلى قيادة تطور علمي في مجالي يعود بالفائدة الملموسة على حياة المستخدمين سواء في جانب حفظ أمنهم أو تحسين مستوى معيشتهم، كما أسعى إلى توظيف خبراتي العلمية في خدمة وطني الغالي والعالم العربي، وهناك العديد من الاتجاهات البحثية التي أعمل على متابعتها؛ فانا أحب مجال عملي جداً وأسعى إلى رؤية ثمار الأفكار البحثية التي أدرسها وهي تتجسد في حلول يمكن أن تساعد في التطوير والاعتماد الآمن والنافع لتقنيات الذكاء الاصطناعي، وأحلم بأن أترك أثراً طيباً وعلماً نافعاً في نفوس الآخرين كما فعل والدي في حياته وبعد مماته، رحمه الله.
المواجهة الأولى مع الطلاب
كيف تصفين اول محاضرة واجهت بها الطلاب كأستاذة في إمبريال كولج؟
أول محاضرة رسمية كانت أمام نحو مائة وثمانين طالباً، وقبل بدء المحاضرة كنت متوترة جداً وغير متأكدة من قدرتي على شد انتباه الطلاب على مدى ساعتين متواصلتين والإجابة عن أي سؤال قد يتم طرحه، ولكن البروفسور الذي سبق أن درّسني في مرحلة الماجستير وكان مرشدي في بحث الدكتوراه، شدّ من أزري وذكرني بخبرتي وتخصصي وقدرتي على إتمام المهمة على أكمل وجه، ولما جاء وقت المحاضرة نجحت في شد انتباه الطلاب وزادت حماستي عندما بدؤوا بالتجاوب معي وطرح الأسئلة، وأتذكر يومها أني خرجت من المحاضرة وأنا سعيدة ومستمتعة بمهمتي الجديدة.
يتركز بحثي على تصميم تقنيات ذكاء اصطناعي جديدة
ماذا تعني لك العاصمة لندن؟
لندن هي بيتي الثاني، وقد تعلمت خلال عيشي فيها الكثير عن نفسي وعن الآخرين؛ فهي التي غذت عندي روح الاستكشاف لأنها المدينة التي توفر الفرص للتعلم والتجريب والترفيه، ويمكن العثور دائماً على دورات تعليمية في أي شيء قد يخطر على البال ابتداء من تعلم مهارات الملاكمة وصولاً إلى لعب الكويدتش من قصص هاري بوتر، وما شد انتباهي في مجتمعها هو روح التسامح وقبول الآخر واحترام خصوصيته، وهذا ليس أمراً مستغرباً على عاصمة يعيش تحت سمائها عدد هائل من الجنسيات المختلفة ولا يشعر فيها الغريب بأنه بعيد عن وطنه.
هل يتواصل معك الطلبة العرب الذين يدرسون في لندن؟
يتواصل معي عدد كبير من الطلبة العرب والسعوديين على وجه الخصوص ممن يكملون دراساتهم العليا في قسم علوم الحاسب في جامعة إمبريال كولج وغالباً ما يأتون للتعريف بأنفسهم وطلب النصيحة في كيفية الاستفادة القصوى من فترة وجودهم في الجامعة والسؤال عن الفرص المتاحة التي تقدمها الجامعة، وأنا أسعد دائماً بهذا التواصل وأشعر بالفخر عندما أرى طلابنا وهم متفوقين ومتميزين في تحصيلهم العلمي.
معان وذكريات
ماذا تعني لك الحياة؟
سلسلة من اللحظات التي نكتنزها في ذاكرتنا والعقبات والصعاب التي تواجهنا ونتغلب عليها.
.. والعلم والمعرفة؟
غذاء للعقل ووسيلة لتطوير النفس والمجتمع.
نصائح الوالدين
نصيحة والدي ووالدتي كانت دائماً موحدة: التماس العذر للغير وعدم الوقوع في اليأس أو التحسر على ما فات والإيمان بالله القادر على أن يفرج كل كربة مهما صعبت الأمور.
كيف تنظرين إلى السفر؟
وسيلة لاكتشاف طرق أخرى وفرصة لتوسيع المدارك والآفاق.
ما البلد الذي ترك أثراً وذكرى خاصة لديك؟
بلدي السعودية هي التي لها أكبر الأثر في نفسي وتبقى ذكريات طفولتي مع قريبتاي وصديقاتي هي الأعز على قلبي.
أجمل ما تصفين به صديقات الدراسة.
كوكتيل طريف من الضحك والدراسة الجادة ومحبة المدرسات اللائي يجلبن لنا الابتسامة عندما نتذكرهن الآن (الله يذكرك بالخير أستاذة شيخة).
ما الحكمة التي تستنيرين بها؟
كان والدي رحمه الله دائما ما يقول:
when the going gets tough, the tough get going
وبقي صداها معي.. وسيبقى.