خمس وعشرون عامًا هي كل ما يملكه الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي من هذه الحياة بكل ما تحمله من قسوة ومرارة وتأجج وزهوة وأمل وسعادة، وما تثيره من صخب وضجيج وحياة. خمس وعشرون عامًا ملأ فيها الأجواء الأدبية بإرهاصته الفكرية، وزلزلاته اللغوية وتركيباته الحانية المبدعة اللاذعة البديعية، خمس وعشرون عامًا زلزلت الأرض تحت أقدام مدعو الحرية مسلوبو الهوية، رقيقو حال الملكة الشعرية، ليرحل بعد ذات الخمس وعشرين تاركًا أثرًا أثيرًا جامحًا لاذعًا بكلمات وحروف وجمل وتراكيب شعرية بليغة أثرت الثقافة العربية، واليوم في ذكرى وفاة الشاعر الحر التونسي الشاب، شاعر تونس الخضراء، تحتفي سيدتي بذكراه العطرة فتعرفك على عدد من أروع ما نظمه من أبيات وقصائد، وياتي تركيز "سيدتي" على تسليط الضوء على هذا الشاعر المبدع في ظل إطلاق السعودية على العام الحالي (2023) عام الشعر العربي، احتفاءً بدوره الحضاري وقيمته المحورية في الثقافة العربية.
• طفولة في أحضان أسرة متدينة مثقفة
ولد أبو القاسم الشابي يوم 24 فبراير/شباط 1909 في قرية الشابّة في محافظة توزر والتي تعني مدينة الأحلام، والملقبة جوهرة الصحراء، وتقع جنوب غرب تونس، ونشأ بين جنبات الطبيعة المدهشة فأفاضت عليه بسحرها وألقها لتنمو ذائقته الشعرية، وتتألق موهبته الفطرية، في أحضان أسرة متدينة مثقفة، حيث تخرج أبوه محمد الشابي من الجامع الأزهر، وأصبح قاضيا، وقد كان شديد التعلق بوالده ملازمًا له بحله وترحاله.
التحق أبو القاسم بجامعة الزيتونة بمدينة تونس عام 1920، وتخرَّج فيها عام 1928. التحق بعد ذلك بمدرسة الحقوق بجامعة نفسها وحصل منها على ليسانس الحقوق عام 1930.
• شغف نحو التجديد فى الخطاب الشعري
عُرف عن الشابي شغفه الدائم للحداثة، وجنوحه نحو التجديد فى الخطاب الشعري، يقول في كتاب الخيال الشّعري عند العرب: "أريد أن أبحث في الخيال عند العرب من ذلك الجانب الذي تَتَدَفَّقُ فيه أمواج الزمن بعزم وشدة، وتنهزم فيه رياح الوجود المتناوحة مجلجلة داوية جامحة، وتتعاقب عليه ظلمات الكون وأضواؤه وأصباح الحياة وأمساؤها؛ ذلك الجانب الذي يستلهم ويستوحي، ويحيا ويشعر، ويتدبر ويفكر، أو بكلمة مختصرة إنني أريد أن أبحث عند العرب على ما سميته خيالًا شعريًّا أو خيالًا فنيًّا".
طوال سنوات عمره القليلة العدد، النابض بالمجد والعزة والجلد، والباحث عن الحرية والكرامة لم يوقف إبداعه وهن الجسد، ولم ينكسر قلمه اللاذع المشحوذ الصلب الوتد، بل ظل سليطًا مسلطًا متسلطًأ على عقلية الجمود القديمة المكبلة بالتكلف والتراجع والعقد.
• عمر قصير وأثر بليغ
حسب الموقع الرسمي لجامعة الزيتونة uz.rnu.tn، فقد عاش أبو القاسم الشابي خمس وعشرون عامًا يوجه سهام نقده اللاذع لعقول قديمة طواها الزمن تأبي المستقبل وترفض الحداثة، وتجنح لماضي لن يعود، فخرج بشعره عن معهود أغراضه ونظم أبياته بلغة سلسة جزلة رقيقة موحية، خالية من كلّ تكلّف وتعقيد، وتَجَلَّت في أشعاره ظاهرة الجُمَل المتوازية في الشعر، هذه الظاهرة التراثية القديمة التي عمد لبث روح الحداثة بين جنباتها في مختلف قصائده التي تنوعت ما بين الشعر الرومانسي والوطني، كما كان له قصائد رائعة في الطبيعة والتغني بصنع الله، وقد اتخذ من مجلة "أبولو" بالقاهرة منبرا حداثيًا ينشر من خلاله أفكاره الطليعية كما نشر فيها عددا من أشهر وأنجح قصائده، وعلى الرغم من الشهرة الكبيرة التي لاقها الشابي، إلا أنه اصطدم بحائط صلب من الرفض والنفور من جانب الأدباء والمثقفين المحافظين المصّرين، ولم يستسلم الشاعر الشاب الجموح حتى ألمت به المحن وفُرض عليه أن يُعلن استسلامه بعد أن فقد حبيبته ومن بعدها والده، فلم يتحمل قلبه الضعيف الواهن هذا القدر من الألم، فأعلن استسلامه ليرحل من مستشفى الحبيب ثامر بالعاصمة تونس بعد صراع طويل مع مرض القلب بالعام 1934، عقب خمس وعشرين عامًا من الإبداع والجموح والتمرد والتفرد.
من أشهر أعمال أبو القاسم الشابي ديوان «أغاني الحياة»، وكتاب «الخيال الشعري عند العرب»، وقد كتب جزءًا من مذكراته، وله مقالات أدبية وأشعار متنوعة نشرها في مجلة أبولو المصرية، وقد كان ناشطًا في المدرسة الخلدونية، والنادي الأدبي بقدماء الصادقية، وهو من مؤسسي جميعة الشباب المسلمين عام 1929. ألقى العديد من المحاضرات في نوادي الأدبية التونسية وله قصائد مشهورة يشار لها بالبنان، وهذه عدد من الأبيات الرائعة من قصائد هذا
- من قصيدة أيُّها الحُبُّ أنْتَ سِرُّ بَلاَئِي
أَيُّها الحُبُّ أنتَ سِرُّ بَلائِي
وهُمُومي وَرَوْعَتي وعَنَائي
ونُحُولي وأَدْمُعي وعَذَابي
وسُقَامي وَلَوْعَتي وشَقَائي
أَيُّها الحُبُّ أَنتَ سِرُّ وُجُودي
وحَيَاتي وعِزَّتي وإبَائي
- ومن قصيدة سَئِمْتُ الحياة وما في الحياةِ
سَئِمْتُ الحياة وما في الحياةِ
وما أن تجاوزتُ فجرَ الشَّبابْ
سَئِمتُ اللَّيالي وَأَوجَاعَها
وما شَعْشَعتْ مَنْ رَحيقِ بصابْ
فَحَطّمتُ كَأسي وَأَلقَيتُها
بِوَادي الأَسى وَجَحِيمِ العَذَابْ
فأنَّت وقد غمرتها الدموعُ
وَقَرّتْ وَقَدْ فَاضَ مِنْهَا الحَبَابْ
- ومن أشهر وأبدع ما نظم أبو القاسم الشابي قصيدة إرادة الحياة
إِذا الشَّعْبُ يوماً أرادَ الحياةَ
فلا بُدَّ أنْ يَسْتَجيبَ القدرْ
ولا بُدَّ للَّيْلِ أنْ ينجلي
ولا بُدَّ للقيدِ أن يَنْكَسِرْ
ومَن لم يعانقْهُ شَوْقُ الحياةِ
تَبَخَّرَ في جَوِّها واندَثَرْ
فويلٌ لمَنْ لم تَشُقْهُ الحياةُ
من صَفْعَةِ العَدَمِ المنتصرْ