عاشت طفولة، غير معتادة ومليئة بالرحلات والمفارقات العجيبة، فكون والدها فناناً هذا جعلها بوهيمية إلى حد كبير، مليئة بعنصر المفاجأة والإبداع الحقيقي، كما تقول وتعلّق: "كنت دائماً صاحبة قصص مختلفة عن جميع أصدقائي منذ الطفولة"، إحساسها بالاختلاف كطفلة، برأيها، ليس بالشعور المريح، فكانت تعبر عن هذا الإحساس بالغوص في خيالها وأحلامها لتصنع عوالمها الغريبة ثم تدونها في مذكراتها السرية، وكونها تنتمي لعائلة فنية كان يتملكها شعور عميق بالرهبة، جعلها تكبت شغفها بالفن، لتبدعه على أوراقها السرية، رغم تشجيع والدها المستمر الذي كان يطلع على براعتها في استخدام الخامات المختلفة منذ الصغر.
إنها الفنانة المصرية هناء السجيني، المشاركة في دورة 2024 من برنامج 421 لتطوير خبرات التقييم الفني، والذي ينظمه 421 بالشراكة مع معهد الفنون الناشئة، التي تحدثنا عن مشوارها الفني، بكل حلوه ومره.
المخزون البصري
كيف يمكن تصنيفك في العائلة؟
أنتمي إلى الجيل الرابع من فناني العائلة، تأثرت كثيراً بالمخزون البصري والفكري بدون وعي كامل مني، وهذا ما شكّل مني الفنانة التي أنا عليها اليوم، وأدين بالفضل لوالدي الفنان الراحل مجد السجيني الذي تعلمت على يديه الرسم على مدار 20 سنة، والأهم تعلمت قيم العمل الجادة وحب الفن والعطاء المعرفي، بيت العائلة كان دائماً يضج بكل أنواع الفنون، من موسيقى الى مسرح وأدب، مما ثقف بصيرتي، وأثرى مفهومي الفني.
متى كانت بداياتك كفنانة محترفة؟
جاء في أوائل الثلاثينات من عمري، حين قررت ترك مجال عملي السابق في مجال الموارد البشرية والاتجاه للفن، ما كان مرحلة حرجة ومهمهة في حياتي، وأتذكر في هذا الوقت القلق الذي انتابني من هذا التغيير الكبير مما شوش على رؤيتي الفنية وثقتي بنفسي، وأتذكر وقتها أنني التقيت بوالدي وأنا في قمه الارتباك والتردد مما أريد إنتاجه والتعبير عنه كفنانة وما هو مقياس وأسباب النجاح وما هي خطتي للعمل، وفي خاطري ألف سؤال! فتوجه إليّ بسؤال واحد: لماذا تريدين أن تصبحي فنانة؟
فقلت: للتعبير عن نفسي بصدق واستمتاعي برحلة الإبداع وابتكار أعمال فنيه، فقال: أبدعي لنفسك، أنتجي فنك بصدق كأن لا أحد سيراه، كوني شجاعة واعملي بجد، استمتعي بنعمة الفن، والمتلقي يشعر بصدق الفن والفنان مهما حدث و الاتكال على الله، ومنذ ذلك الوقت وأنا دائماً ما أذكر نفسي بهذه الكلمات وأعمل بها.
معان إنسانية متفردة
من أين تستوحين أفكار أعمالك التي تبدو وكأنها مواقف إنسانية تروى بمواد طبيعية؟
أستوحي أعمالي من الحياة اليومية والمواقف الإنسانية والعلاقات الأسرية، فانا أرى معاني وفلسفة عميقة فيها، وأحاول من خلال فني فهمها وفهم كيف تؤثر علي البشر وتكوينهم.
معنى فقد عزيز مثلاً كانت من المواضيع التي شغلت فكري سنين طويلة، ما معنى هذا الفقد تجاه الإحساس بالمكان وبالأشياء وبالصور الفتوغرافية.
ما معني أن يمرض الإنسان؟ ماذا يتغير بداخله؟
تركزين كثيراً على نحت وتشكيل الإصبع، لماذا؟ وما معنى هذه المنحوتة؟
موضوع مشروع "عد الأصابع" الذي عُرض في مَجمع 421 للفنون يتناول محاولة فهمي لإحساس الإنسان عندما يمرض و يخونه جسده.
ورحله المرض يتضمنها كثير من الفحوصات من غرباء وقرارات محورية من الطاقم الطبي، بالإضافة إلى نعمة أيدي المساعدة الحنونة. إلى جانب المريض الذي يستمر في عد أصابعه؛ لحصر الوقت الذي يمر وعدد جلسات العلاج.
فوحدة الإصبع كانت تحمل معاني كثيرة في مثل هذه الرحلة واستمرت في الظهور في المنحوتات المختلفة.
التجربة والصبر أهم عاملين في التعامل مع خامة الخزف. فالخزف له قوانين ولا يمكن السيطرة الكاملة على تصرفاته.
الطين والإنسان
ما هي المواد التي تستخدمينها في منحوتاتك؟ وما هي علاقتك مع الطين تحديداً؟
في مشواري الفني استخدمت مواد مختلفة في أعمالي، فالخشب من الخامات التي أحب استخدامها و متمكنة منه، و لكن في مشروع معرض "عد الأصابع" بالتحديد كنت أبحث في مضمون الضعف الإنساني ووهن الجسد، فالطين والخزف كان أكتر خامة ملائمة من وجهة نظري للتعبير عما أريد توصيله للمتلقي.
فالخزف هش ولكي يتحول من طين إلى كتلة صلبة يحتاج إلى التعرض لحرارة فائقة، مثل الإنسان عندما يتعرض لصعاب ويخرج من هذه المحنة أقوى وبنفس الوقت يظل جزء منه هشاً من وهل التجربة.
الفنانة التشكيلية والخزفية الإماراتية حصة العجماني: أعمالي قصص من الحجر والطين
ما علاقة الموسيقى بما تبدعين؟
الموسيقى جزء أساسي من ممارستي للفن، و اختار دائماً موسيقى تتماشى مع عملية الإبداع والتفكير الفني ومدتها. فالخزف يحتاج إلى صبر وهدوء لإنتاجه؛ لذلك اختار السماع الى أغاني تعطيني سكينة واطمئنان خلال العمل، فأنا عاشقه للست أم كلثوم، سيدة الغناء العربي، التي تتسم أغانيها بصدق المعاني وجمال التعبير، أيضاً طولها الشديد وسهولة حفظها وهو ما يخفف عني الإحساس بالوقت والاستمتاع بالغناء وأثناء العمل.
بدايتي هي فهم أحاسيسي
هل هناك تحول أو حادثة دفعتك للإبداع؟
أقوى دافع عندي للعمل هو حاجتي الشديدة لفهم الأحداث عندما تكون جسيمة ويصعب علي فهم تأثيرها وكيف غيرت منظوري وفهمي للحياة. فمن خلال كتابة خواطري وأحاسيسي والبحث والعمل على قطع فنية وتطويرها، أبدأ بفهم أحسن لأحاسيسي و وقع الأحداث على نظرتي و فهمي لما هو حولي و لنفسي أيضاً.
و جاء أول دافع عندما توفى والدى فجأة بدون أي مقدمات في أشد وقت حاجتي لوجوده و لم أستوعب أو أفهم حتى بدأت في الإنتاج الفني، وهي مازالت رحلة استيعاب وإدراك مستمرة.
أوصاني والدي أن أبدع لنفسي، أنتج فني بصدق كأن لا أحد سيراه، وأستمتع بنعمة الفن
ما هو أجمل موقف يربطك بقطعة فنية تعتبر المفضلة لديك؟
أعشق مدينة برشلونة، فهي أول مدينة أسافر إليها لأتعلم الفن من منظور مختلف بعيداً عن كل ما أعرفه، و هي آخر مدينة سافرتها مع والدي عندما جاء لزيارتي و أنا اعمل على أول معرض لي هناك حيث قضينا وقتاً جميلاً.
وهي آخر مرة والدي يرسمني فيها بورتريه؛ لذلك مدينة برشلونة من احب الأماكن إلى قلبي.
ابتكار لغة حوار
هلا ذكرت بعض الفنانين الذين تجذبك أعمالهم؟
الأعمال التي تجذبني تتغير بمرور الوقت وتراكم الخبرات. في مقتبل عمري الفني كان التمكن من الحرفة ووجود لغة فنية خاصة بالفنان وثقته المحسوسة في العمل أكثر ما يجذبني، فكنت أحب هنري ماتيس وفان جوخ، ومازلت أكن لهم كل الاحترام. و لكن بمرور الوقت بدأت أبحث عن الصدق والحساسية و الشجاعة في العمل الفني، و وجدتها في أعمال الفنانات اكثر، فأمثال لويس بورجوا و فريدا كالو و كاري ابسون يبحثون بداخلهم لفهم علاقاتهم وأحاسيسهم المختلفة.
ماذا تنصحين كل من يقبل على خوض تجربة العمل بالطين والسيراميك؟
التجربة والصبر أهم عاملين في التعامل مع خامه الخزف. فالخزف له قوانين ولا يمكن السيطرة الكاملة على تصرفاته. فيجب ابتكار لغة حوار مع الخامة والسماع إلى متطلباتها و مجاراتها حتى نبني سبل التفاهم بين الفنان والخامة وهذا يحدث من خلال التجارب والعمل الكثير. ولأن نتيجة الخزف ليست مضمونة، من الممكن أن ينكسر خلال عملية الحرق فأهم شيء هو الاستمتاع بعملية الإبداع و التجربة.
حدثينا عن تجربتك في دورة 2024 من برنامج 421 للتطوير الفني وكيف تقيمين التجربة؟
تجربتي كانت رائعة! فكرة برنامج التطوير الفني الذي يتيحها 421 تمنح فرصة حقيقية للفنانين لخوض تجربة عرض فني متكامل. فجمع 421 للفنون يبتكر توازن فذ بين إعطاء الفنان حرية الإبداع وفي نفس الوقت الدعم اللازم الذي يمكن الفنان من تحقيق رؤيته الفنية بأفضل شكل. إلى جانب وجود أنشطة تعليمية ومطبوعات ومناقشات على أصعدة مختلفة تمكن الفنان من التعبير والتعريف عن أعماله بطرق متعددة نتعلم من خلالها ونكتسب الخبرات.
تقدم هناء السجيني في هذا المعرض الفردي الكبير مجسماً كبيراً نفذته حديثاً، وموضوعه عدم استقرار التجربة الإنسانية وهشاشتها. ويعرض المجسم أكثر من 200 قطعة خزفية خيالية، تبلغ ذروتها في منحوتات وهياكل سريالية تحاكي وتعيد تصور مساحات الرعاية الصحية، مثل غرف الانتظار الطبية، وممرات المستشفيات، ومكاتب الأطباء. هذه المساحات، التي يُنظر إليها عادة على أنها مجالات رواقية، تتحول إلى مواقع تشبه الحلم؛ غريبة ومخيفة ومسلية في الوقت نفسه. وبحضوره القوي في رواق 1، يغمر العمل الزائرين في عالم الفنانة الشخصي العميق.
