ما إن يحدث في المجتمع حدث، سواء أكان مباراة قمة، أم قراراً رسمياً، أم كارثة أياً كان نوعها، حتى تجد سيلاً من التعليقات والنكات تتدفق عبر وسائل التواصل الاجتماعي باختلافها، ما يجعلنا نتساءل: هل هذه الروح موجودة من قِبل هذه الوسائل، أم أنها هي التي صنعتها وجعلت النكتة تملأ العالم الافتراضي؟
وقد مرّت «سيدتي» على حسابات ساخرة على موقع التواصل «تويتر»، ووجدت أسماءها تدل عليها: «مطفش إبليس، مواصل والمخ فاصل، بسمتك تكفينا، باص تويتر، يوميات فاهي.. إلخ»، وكلها جذبت متابعين كثيرين تجاوز بعضهم ربع مليون متابع، وتميزت بإضافة روح ساخرة للأحداث، أوجدت علاقة طردية بين نسبة السخرية وعدد المتابعين، كلما ارتفعت الأولى، زاد مستوى الثانية، وهنا يبرز سؤال: هل صرنا ﻻ نستوعب الأحداث ونتفاعل معها إلا بروح ساخرة، أم أن مجرد توافر هذه الوسائل أسهم في سريان هذا المنسوب العالي من النكات؟
عن ذلك تحدث الدكتور علي جابر السلامة، استشاري الأمراض النفسية ومكافحة الإدمان ومغرد معروف على «تويتر»، حيث ذكر أن السخرية هي من وسائل التعبير المتعددة الأوجه والأسباب، وقد تكون فارغة المضمون حد التهريج والإسفاف، ولكنها أيضاً قد تكون وسيلة تعبير عن وضع مرير تعذر التعبير عنه بطريقة معتادة؛ بسبب المنع بالإكراه أو الامتناع نتيجة ضغط المجتمع الرافض لبعض وسائل التعبير، هذه الروح الساخرة أيضاً قد تكون نتيجة عدم القدرة على التعامل مع الأزمات بطريقة سليمة، مثل المواجهة وطلب المساعدة... إلخ.
السخرية طبع أصيل
وكذلك نلاحظ أن السخرية طبع أصيل في كل المجتمعات، ولكنها تجد أرضاً خصبة في تلك التي تعاني أزمات خانقة أو احتقاناً حاداً أو كبتاً مزمناً، ما يجعل أصحاب تلك الروح المرحة يميلون إلى السخرية من هذه الأزمات، كما نلاحظ أن النكتة المصورة والرسم الساخر من الطرق المحببة للوصول إلى أكبر عدد من المتلقين لتنتشر، بغض النظر عن موقف المتلقي، خاصة مع سهولة ذلك حالياً عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة؛ اليوتيوب، وفيس بوك، وتوتير، وكيك.. إلخ.
خصائص النكتة
هذه الوسائل أسهمت في تشكيل النكتة وتنوع أساليبها (كتابة وصورة ومقطع مصور.. إلخ)، ويضاف إلى ذلك أن سهولة إنشاء حسابات في هذه المواقع وتوافر برامجها على الأجهزة الذكية المتداولة، أسهم في قوة تأثير هذا النوع من التعبير الساخر، إلى جانب أن عالمها الافتراضي منح سهولة التخفي لمن يقف وراءها، وكذلك منحها سرعة الانتشار (قص ولصق) في ثوانٍ معدودة؛ لتصل إلى شريحة واسعة من المجتمع، ومن ثم إلى العالم الخارجي، وحقيقة أخرى يجب ألا نغفلها؛ وهي أن المراقب الرسمي يعتبر هذه الفكرة الساخرة جساً لنبض المجتمع، وأن انتشارها على نطاق واسع واستمرارها لفترة أطول مؤشر لقوة الفكرة وصلابة أسبابها، حيث ساهمت التقنية الحديثة في صناعتها ونشرها.
النكتة في المجتمع السعودي
وحينما ننظر للمجتمع للسعودي؛ فهو ليس منعزلاً عن العالم، ويمتلك بطبيعته روحاً ساخرة متأصلة قبل هذه المواقع، ويشهد على ذلك النشاط المسرحي والبرامج التلفزيونية الساخرة، وما هو موجود نعتبره امتداداً لها، ولكن بشكل آخر ﻻ يخضع للقيود الرسمية أو أنظمة العمل الفني؛ مثل قنوات اليوتيوب وبرامج الكيك التي نشرت مقاطع ساخرة، وفي الوقت نفسه منحت خفيفي الظل فرصة ﻹبراز مواهبهم دون تعقيد إداري أو تكلفة مادية تذكر.
تنميط النكات
وهذه النكات يستقبلها الناس باستيعاب آخر للحدث، الذي قد يكون قراراً سياسياً أو رياضياً، أو انتقاداً لخدمات أو ظواهر اجتماعية خاطئة يعاني منها المجتمع، أو معاناة ما، أو ما يتعلق بالآداب العامة أو الأخلاق أو الدين أو مناسبات عابرة، أو ما يكون نقداً للإعلام، كل هذه الأحداث تمر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وﻻ تكتفي باكتساب النكهة المرحة عند مرورها بحساب ساخر، ولكن يتم تنميط نكاتها ﻷحداث مشابهة (مباريات القمم الكروية)، وخلق لوازم لفظية (وضعية كذا وكذا)، تتداول في مواقف متماثلة. خاصية أخرى تمنحها هذه الروح الساخرة في هذا التناول؛ وهي أن أي حدث يقع مستقبلاً ﻻ يجد التداول والانتشار والقبول نفسه ما لم يحمل هذه النكهة المرحة المحببة لدى الجمهور.
انضباط النكتة أخلاقياً
ونلاحظ أن هذه النكتة اللاذعة قد تكون منضبطة أخلاقياً واجتماعياً، ولكنها قد تخرج على هذه الضوابط وتتمرد ببعض الإسفاف؛ من أجل أن تعزز انتشارها، ورغم صدور قوانين تجرم الإساءة بمثل هذا الأسلوب، إﻻ أن ذلك لم يحد من قوة انتشار هذه النكات لعدة أسباب، أهمها عدم وضوح وضع النكتة الساخرة بكافة أشكالها في هذه الأنظمة، كما أن صعوبة التعرف على مصدرها يعد عائقاً آخر، يضاف إلى ذلك النجومية التي منحتها لصانعيها؛ إذ أدت إلى التنافس المحموم بينهم، ما أدى إلى ابتكار أساليب ومضامين جديدة أخذت تنمو بشكل متسارع، وجعلت من الصعب إيقافها أو حتى الحد منها، وبرأيي أن هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة جادة لمعرفة الأماكن الظليلة فيه.
مروان المريسي، صحافي ومعد برامج تلفزيونية، جمع في كتابه «لبن العصفور» عدة تغريدات ساخرة على «تويتر»؛ فقد أدلى بدلوه حول الموضوع، ذاكراً أن الكتابة على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة توفر القالب الساخر للرسالة التي يريد الشخص إيصالها مساحةً أكثر من حيث الحرية وسقفها المرفوع، فعلى سبيل المثال كان الإعلامي الدكتور باسم يوسف يقوم بـ«نسف» شخصيات مؤثرة على المستوى الإعلامي والسياسي والاقتصادي، ويبني لها صورة ذهنية في عقل المتلقي، ثم يقول بكل عفوية: «إحنا بس بنهرَّج»، ولا يقتصر الأمر على البرامج التلفزيونية فقط، فتغريدة واحدة يكتبها المغرد في قالب ساخر تلقى من الرواج والانتشار ما لا تلقاه غيرها من التغريدات المباشرة، كما أن القالب الساخر يمنح الكاتب أو المغرد خط رجعة يستطيع أن ينسحب إليه في حال اضطر للمساءلة عن قصده، خصوصاً إذا استخدم الكاتب أسلوب الترميز بدلاً من المباشرة، فيستطيع الكاتب الحاذق الحديث عن مشكلة اجتماعية مثلاً بزعم أنها موجودة في جزر «الواق واق»، ويمنح نفسه بذلك جزءاً من الحرية والأريحية لا يجدهما، ولا يستطيعهما في الكتابة المباشرة.
هتون قاضي، مقدمة برنامج «نون النسوة» الساخر على قناة mbc وعلى اليوتيوب، قالت: «حقيقةً لا أملك إجابة مبنية على دراسات، ولكن رأيي الشخصي أن الناس عادةً يشعرون بأن الشخص الساخر يتحدث معهم وبلسانهم كواحد منهم لا كناصح أو عالم، نحن عادة نحترم ونقدر الناصحين والعلماء، ولكن قد نشعر بفوقيتهم وإن لم يظهروها، أما الساخر فيستخدم لغة بسيطة وذكية تصل لقلوب وعقول الناس، وقد يقول ما يدور في عقول الكثيرين، ولكنهم يعجزون عن التعبير عنه، فيجدون ملاذهم في هذا الذي يتحدث لغتهم ويفهم تفكيرهم، وميزة السخرية أنها تشعر الناس أن بإمكانهم الضحك مهما كانت القضية ساخنة وكبيرة، وقد تحفزهم أكثر للتغيير؛ لأنها لا تحمل نصحاً قدر ما تسلط ضوءاً وتجعل التغيير قرار الشخص لا قرار الساخر.