حديث عن الوظيفة

 

قالت لي صديقة إنها تغبط الناس الذين يقدرون على رسم خط فاصل بين حياتهم المهنية وحياتهم الشخصية.. صديقتي تعاني من بعض المشاكل في شغلها، وتعجز عن حصر تلك المنغصات في خانة بعيدة عن عالمها الشخصي والأسري.. «أنقل همومي إلى البيت رغمًا عني (تشكو بحرقة) وأذيق أفراد عائلتي أصنافًا من التوتر والعذاب لا يستحقونها.. أكره هذا الوضع، وأزداد عصبية وضعفًا كلما حاولت الثورة عليه، وتغييره.. كيف أفشل فيما يفلح فيه الكثيرون؟».

هل صحيح أن الأشخاص الذين يقدرون على نسيان مشاغلهم المهنية داخل مكاتبهم كثيرون؟ يشك المرء في ذلك.. لسنا روبوتات تعمل بالأزرار وتتلقى الأوامر بشكل آلي.. كل منا كتلة معقدة من المشاعر والأحاسيس والانفعالات المتناقضة.. نحتاج للتحلي بقوة نفسية غير طبيعية؛ كي نستطيع التحكم بشكل جزئي في هذا النسيج النفسي العجيب.. صديقتي ليست ضعيفة أكثر من غيرها.. ولكنها ربما حساسة زيادة بعض الشيء.

حديثنا عن هموم الشغل المتسللة إلى البيت جرنا إلى مناقشة المكانة التي صارت الوظيفة تلعبها في حياتنا.. لم تعد نشاطًا نزاوله لنحصل على مقابل مادي يكفل لنا حياة مستورة.. صارت أكثر من ذلك، مطلبًا نفسيًّا نستشعر بفضله أهميتنا في المجتمع، ووسيلة فردية لتحقيق الذات، وإرضاء الغرور، والشعور بأننا نصنع شيئًا، ونحقق إنجازًا.. صديقتي اعترفت بأنها لن تترك وظيفتها حتى لو لم تكن بحاجة إليها.. حالتها الخاصة تستدعي التأمل.. جانب كبير من شكاواها المتكررة مرتبط بتأثير مشاكل مكتبها على علاقتها بزوجها وأولادها، وهي رغم تذمرها من الوضع غير مستعدة لترك مهنتها.

هل صارت الوظيفة مهمة إلى هذه الدرجة في حياتنا؟!

منذ فترة نشرت الصحف المحلية خبرًا عن شاب انتحر بسبب فشله في العثور على عمل.. لم تكن حالته المادية سيئة.. بقاؤه في البيت دون وظيفة أثّر بشكل سلبي للغاية على معنوياته، فلم يعد يرى للحياة قيمة تستحق أن يناضل من أجلها.

 حوادث الانتحار بين الشباب العاطلين عن العمل كثيرة.. صحيح أن أغلبهم يضعون حدًّا لحياتهم بسبب ظروفهم المادية الصعبة، ولكن منهم من ينهي حياته؛ لأنه لم يجد لنفسه موطئ قدم في سوق الشغل المكتظة.. العمل صار إطارًا ضروريًّا لاكتمال شخصية المرء في زمن المظاهر الذي نعيشه.. مثله مثل الشكل المرتب، والكنية الرنانة، والمعارف النافذين، والشهادات الراقية.. هو جزء من الهوية.. وهو علامة وجاهة يتفاخر بها المرء ويزهو.

الشخص العاطل يعيش تمزقًا لا يعرفه سوى الذي مرّ من نفس التجربة.. أهله يخجلون من وضعه، والناس يعتبرونه عالة على المجتمع، وهو يرى نفسه ضحية لأنظمة بيروقراطية هو غير مسؤول عن فسادها.

العاطل يولد مرة ثانية عندما يبتسم له الحظ ويعثر على عمل.. والمرء الذي قد يعود للحياة بفضل الوظيفة يمكنه أن يفارقها بسببها.. نعم، فالعمل قد يقتل أيضًا.. يتحدث المحللون النفسيون عن الضغط العصبي والإرهاب النفسي والتحرش الفكري الذي يمارسه بعض أرباب العمل على مستخدميهم.. في فرنسا ينتحرون بالعشرات.. يعجزون عن تحمل الحرب النفسية المفروضة عليهم.. فالمطالب المنتظرة منهم قاسية؛ أن تكون الأفضل، أن تنتج بغزارة، أن تعمل بكد، أن تبادر، أن تفاجئ، أن تبدع، وتبيع.. يمكن أن تفقد وظيفتك في لحظة.. ولا يشفع لك عند زلاتك سجلك المهني المتميز ولا سنوات خدمتك الطويلة.. المنافسة شرسة، وغير شريفة، وعجلة النظام الرأسمالي الثقيلة تدوس بغير رحمة على رقاب المتلكئين والسذج والضعاف...

 شهدت فرانس تلكوم في الثمانية عشر شهرًا الماضية أربعة وعشرين حادث انتحار بين موظفيها.. رقم مخيف تناقلته وسائل الإعلام الأوروبية بذعر.. والموجة تمتد إلى قطاعات أخرى.. الأطباء يتحدثون عن كارثة نفسية تهدد ركائز النظام الوظيفي في الدول المتقدمة.. اللهاث وراء الربح، وقهر الفرد، وتغييب خصوصياته الإنسانية حول الشركات الكبرى إلى مرتع خصب للأمراض والعقد والأزمات النفسية الخطيرة.

حوادث الشغل التي تتناقلها الصحف العالمية تصور أكثر من تقارير المختصين الهشاشة السيكولوجية التي صار يعاني منها موظفو هذا الزمن.. في اليابان ماتت في الفترة الأخيرة سيدة في بداية الأربعينيات بجلطة دماغية، تسبب فيها الإجهاد الشديد الذي عانت منه بسبب عملها لأكثر من ثمانين ساعة إضافية فوق دوامها العادي.. ضحايا الإرهاق في الشغل يعدون بالآلاف في دول جنوب شرق آسيا، التي يعرف عن مواطنيها الكد والاجتهاد والتضحية بكل شيء في سبيل أداء العمل على أحسن وجه، والمساهمة في ازدهار الشركة أو  المؤسسة.

الوظيفة صارت حبل نجاة يتعلق به الشباب العاطل عندنا، وعقدة مشنقة ينهي بها الموظف المغلوب على أمره في الغرب آلامه وإحباطه.