تصاريف القدر
طرقت الخادمة الباب ودخلت. ووضعت آنية على المنضدة. لم تلتفت إليها. بقيت تنظر إليهم من النافذة. يتحدثون مع صاحبة المكان، قرب سيارة حسن.
ربتت يد الخادمة على كتفها. قالت شيئا، وأشارت بيدها إلى المنضدة التي قربتها منها.
شاي أسود، وشرائح خبز، وزبد، ومربى.
رفضت الأكل، وأدارت كرسيها نحو النافذة. حسن وحميد وزوجتاهما يصافحون صاحبة المكان، ويركبون السيارة. ألصقت جبينها بالزجاج. لم يرفع أحد عينيه نحو شرفتها. تحركت السيارة. ورحلوا.
تنهدت وضاق صدرها بشيء أكبر من الألم. هذه آخرتي يا حاج. رماني الأولاد ككيس قمامة، وتركوني بين أيدي الغرباء. هذه آخرتي.
قالت الخادمة شيئا، وانسحبت.
تنهدت، وأطلقت العنان لدموعها. سامحهم الله.
فاجأوها بالموضوع. حسن كان مصرا أكثر من أخيه :
«لا يمكن أن تظلي هكذا يا أمي. تحتاجين لمن يرعاك، ويأخذ باله منك، ويؤنس وحدتك. هناك دار في الريف تديرها سيدة محترمة. موقعها سيعجبك. خضرة على مرمى البصر. وهدوء. وسكينة. سترتاحين فيها».
لم تقبل. ولم يحفلوا برأيها.
«سنذهب لزيارة المكان. ترغب المديرة في التعرف عليك».
دامت الرحلة فترة طويلة. توغلوا بين الحقول والغابات. حاولت أن تتأمل المنظر من خلف ستار الأمطار الغزيرة، وغلبها نعاس متقطع، ولفت السيارة منعطفات متتالية قبل أن تتوقف أخيرا أمام بناء مترام وكئيب.
«هذه غرفتك. جميلة جدا أليس كذلك؟ سيأتونك بالأكل، وإن أردت فستتناولين وجباتك مع أناس من عمرك، ستتعرفين عليهم، وتتجولين معهم في الحديقة، وتشاهدين التلفزيون، وتستمعين إلى الراديو، أو المسجل، سأحضر لك كاسيتات القرآن الكريم. الكل هنا سيكون في خدمتك. وسنأتي لزيارتك...».. تكلم حميد بسرعة.
«لن أفهم ما يقولونه لي، ولن يفهموني. لو أرسلتموني فقط إلى المغرب...!».
الكلمات القليلة التي قالتها.
ضاقت ذرعا بالإنجليز، وببلاد الإنجليز. منذ أن مات المرحوم وهي تلح عليهم ليبعثوها إلى بلدها. نعم، لم يعد لها أهل هناك، ولا معارف، ولكنها على الأقل ستكون بين أناس يتكلمون لغتها ويرقون عليها أكثر من أبنائها.
«يجب أن تعذرينا يا أمي» قال حسن بحزم: «لا نستطيع رعايتك. وقتنا ضيق كما ترين؛ العمل، ومتطلباته، والمشاغل اليومية، والسفريات الكثيرة. نريد أن نطمئن عليك. سنضعك بين أيد أمينة. وسنأتي لنراك. كيف تريدين منا أن نبعثك إلى بلاد لم يعد يربطنا بها شيء؟ أتتخيلين كم ستكلفنا زيارتك من وقت ومال وتعقيدات؟».
لم تعد بيدها حيلة. لو أنها طاوعت المرحوم وتعلمت بعضا من لغة الناس هنا! لديها الآن معاشه، ولديها الشقة التي تركها لها، ولكنها لا تدري كيف تتصرف في شيء.
أحكمت لف الغطاء الدافيء الذي وضعه حميد على كتفيها قبل أن يخرجها من دارها، في الصباح : «أوصيت أحد الحجاج بأن يأتيني به. إنه من مكة. أعرف كم تحبينها... ».
تمنت لو أتاها بالهدية في ظروف أخرى. كانت ستطير من الفرحة.
انكمش وجهها بألم، وفاضت عيناها. معهم حق. امرأة مسنة مثلها، مقعدة، مريضة، وجاهلة... ما الفائدة من شغل البال وتضييع الوقت والمال في رعايتها؟ لقد عاشت عمرها. الزمن الآن زمنهم، والمستقبل مستقبلهم، أما هي فما تبقى لها في هذه الدنيا وقت معلوم. ألم يذكر الطبيب ذلك؟
ضجة وجلبة في الأسفل. المرأة صاحبة الدار، وأشخاص آخرون. رفعوا رؤوسهم نحوها. وأجفلت. ما الأمر ؟
ابتعدت عن النافذة.
استمرت الجلبة. أبواق سيارات، وأصوات خطى سريعة، وأحاديث غير مفهومة، وشهقات، وطرق ملحّ على بابها.
الخادمة التي أتتها بالأكل، وصاحبة الدار، ورجل يرتدي بلوزة بيضاء، وامرأة بنفس اللباس، وشرطة. تكلموا، ولم تفهم شيئا مما قالوه. وتكلموا ثانية ببطء شديد، وقاموا بحركات وإشارات، وتملكها الخوف وإن كانت لم تفهم دائما شيئا.
دخل رجل مبتل خلفهم. تحدثوا معه، وأفسحوا له الطريق نحوها.
«أهلك» قال بعربية ركيكة تعرضوا لحادث. انزلقت السيارة، واصطدمت بشجرة، وتهشمت. مات الجميع. الرجلان، والمرأتان. نحن متأسفون... ».
بقيت تحملق فيه دون أن تقول شيئا.
«كلهم ماتوا... »
رجعت بها الذاكرة ساعات إلى الوراء. لحظة الفراق.
ولداها يقبلان رأسها، ويطلبان منها أن تسامحهما: «العمر يجري ونحن لم نحقق بعد شيئا مما خططنا له. نحن مضطران للتضحية بالكثير من أجل التفرغ لأعمالنا. بك، وبالأطفال الذين لا نستطيع إنجابهم الآن، وبراحتنا، وهناء بالنا. الوقت لا يرحم. ونحن نسابقه... ».
لفت نفسها في غطائها القادم من مكة، وبكت بحرقة.