الاعتقادُ السائدُ بأن الشغفَ يتلاشى مع الوقتِ، وأن العمرَ، يضعُ حدوداً للأحلامِ، كسرته المهندسةُ منى الدغيدي، فبروحٍ شابَّةٍ، وعقلٍ متجدِّدٍ، تواصلُ التعلُّم، وتخوضُ تجاربَ جديدةً، وكأنَّها تفتح في كلِّ مرحلةٍ من حياتها نافذةً، تطلُّ منها على عالمٍ مختلفٍ. من الهندسةِ إلى الفنون، ومن الكتابةِ إلى البودكاست، لم تترك شغفاً دون أن تمنحه فرصةً. كلُّ تجربةٍ فصلٌ جديدٌ في كتابها الخاصِّ، وهي لا تتوقَّفُ عن إضافةِ سطورٍ من الإلهامِ والمغامرة. في زاويةٍ دافئةٍ من منزلها، استقبلتنا المهندسةُ منى بابتسامةٍ، حملت دفءَ التجربةِ، ووهجَ الشغفِ. لم يكن مجرَّد لقاءٍ، بل كان رحلةً داخلَ عالمها الخاصِّ.
حوار: مروة عوض
تصوير | يحيى أحمد
رحلة منى الدغيدي لم تكن بمعزلٍ عن حياتها الشخصيَّة، بل جاءت امتداداً لعلاقةِ حبٍّ وزواجٍ، دعمتها وألهمتها، فبمساندةِ زوجها، المهندس أشرف ياسين، استطاعت أن تكون أماً ملهمةً، غرست في أبنائها قيمَ الطموحِ والنجاح، وهو ما تجسَّدَ واقعاً في نجلَيها الفنَّان آسر ياسين، الذي تألَّق على الشاشة، والمهندس إسلام ياسين، الذي سار على خطى والديه في المجالِ الهندسي.
الهندسةُ، لم تقتصر على كونها مهنةً فقط في حياتها، إذ تجلَّت أيضاً في أدقِّ تفاصيلها بدءاً من تنظيمِ أغراضها بعنايةٍ، وحتى اختيارِ ملابسها بتناسقٍ مع مراعاةِ كلِّ جزئيَّةٍ أثناء ذلك.
وتالياً، جاءت «حكاياتُ نوني»، التي عبرت بها من الهندسةِ للكتابة، شاهداً على أحلامٍ غير مقيَّدةٍ بمجالٍ، وعلى قدرتها في الوقتِ نفسه على السردِ والإبداع. وقد صدرَ ثلاثُ طبعاتٍ من الكتاب، حملت للقارئ لمحاتٍ دافئةً من تجربتها الحياتيَّة المُلهمة.
تقولُ الدغيدي عن كواليسِ هذا التحوُّل في حياتها: «أنا أحبُّ الحكي، وحين أكتبُ، أجدُ أن كلماتي، تظلُّ حاضرةً، ليقرأها الآخرون في أي وقتٍ. أحبُّ أن أسردَ التفاصيل». تضيفُ: «الكتابةُ دخلت حياتي بمحضِ الصدفة، وتحديداً خلال فترةِ جائحةِ كورونا والحجْرِ الصحِّي، لتشكِّلَ ملاذي الآمن، إذ بدأتُ بمشاركةِ قصصي في إحدى مجموعاتِ القصَّة القصيرةِ بموقعِ فيسبوك، ولم أكن أتوقَّعُ التفاعلَ الكبيرَ الذي حظيتُ به من أعضائها. لقد أثَّر بي دعمهم، وشجَّعني على الاستمرار».
وتستطردُ المهندسة: «بفضلِ هذا التشجيع، تواصلت معي الأستاذةُ نورا رشاد من الدارِ اللبنانيَّة للنشر، ولم يكن لدي أي تصوُّرٍ حينها بأن الأمرَ قد يتطوَّرُ إلى نشرِ كتابٍ! ولفتني أن المسؤولةَ عن الدارِ، أعجبت بحكاياتي دون أن تعلَّم أنني والدةُ الفنَّان آسر ياسين، ما جعلني أدرك أن الحكاياتِ، وصلت إلى القلوبِ بصدقها».
وعن دعمِ عائلتها، تجيبُ الدغيدي: «قبل الإقدامِ على هذه الخطوة، استشرتُ زوجي المهندس أشرف ياسين، وآسر وإسلام، وكان دعمهم وتشجيعهم دافعاً قوياً لي لخوضِ التجربة بكلِّ ثقةٍ وشغفٍ».
وعلى الرغمِ من التعبِ، والوقتِ الطويلِ في التحضيرِ للكتاب على مدى عامٍ كاملٍ، إلا أن منى عبَّرت عن سعادتها بالتجربةِ قائلةً: «سعيدةٌ جداً بهذا الكتاب. كيف لا أكون كذلك، وهناك مَن يهديه لأشخاصٍ لهم مكانةٌ في قلبه، خاصَّةً مَن يمرُّون بظروفٍ صعبةٍ، أو يشعرون بالتعبِ، لمنحهم الأملَ والتفاؤل، فالكتابُ، مع أنه يتناولُ تجاربَ قاسيَّةً، بينها تجربتي مع المرض، لكنَّه يحملُ، في الوقتِ نفسه، شحنةً كبيرةً من الأملِ والإيجابيَّة بين صفحاته».
يمكنك أيضًا متابعة فيديو.. منى غانم المرّي تؤكد على أهمية البودكاست كوسيلة إعلامية حديثة
بودكاست «في بيت نوني»

لم تكتفِ الدغيدي بالهندسةِ والكتابة، إذ جذبها الإعلامُ الجديدُ أيضاً عبر عالمِ البودكاست، فأطلقت «في بيت نوني»، البرنامجُ الذي حقَّقَ نجاحاً كبيراً، وسجَّلَ نسبَ مشاهدةٍ مرتفعةً في الوطنِ العربي، ليصبحَ محطَّة دفءٍ وإلهامٍ لكلِّ مَن يبحثُ عن شغفه مهما كان عمره. سألناها عن التجربةِ، فردَّت: «سعيدةٌ للغايةِ بهذا البودكاست. البرنامجُ تجربةٌ جديدةٌ بالنسبةِ لي، وكلُّ حلقةٍ، تحملُ طابعاً خاصاً، وتميُّزاً فريداً. من خلاله، أقدِّم حكاياتٍ مختلفةً عما وردَ في كتابي، ويضع فيه كلُّ ضيفٍ بصمته المميَّزة، ما يُضفي عليه نكهةً خاصَّةً. أكثر ما أسعدني حقاً، هو ردودُ الأفعالِ الإيجابيَّة حوله».
أمومتها فنّها الأول
ولطالما عشقت المهندسةُ الأعمالَ اليدويَّة، والفنون، لكنْ أمومتها، كانت فنَّها الأوَّل والأهمَّ. في أعوامِ طفولةِ ابنَيها، كرَّست وقتها بالكاملِ لهما، ولم يكن لديها متَّسعٌ لهواياتها، لكنَّها لم تشعر يوماً بأنها تخلَّت عنها، بل أجَّلتها للحظةِ المناسبة. وبعد أن كبرا، واستقلَّا في حياتهما، وجدت نفسها أمام مساحةٍ من الوقت، لم تكن تمتلكها من قبل. ومع أنها تخطَّت الستين، لكنَّها أدركت أن هذا هو الوقتُ المثالي، لتعيدَ إحياءَ شغفها القديم، وتحوِّلَ أعوامَ العطاءِ إلى لحظةِ استحقاقٍ.
شغف بالأعمال اليدوية
تحدَّثت لنا عن شغفها بالأعمال اليدويَّة من داخلِ ورشتها الصغيرةِ المملوءةِ بالتفاصيلِ والإبداع. كشفت عن أنها في هذا المكانِ، لا تصنعُ فقط أعمالاً يدويَّةً، بل ولحظاتٍ زاخرةً بالبهجة. تقولُ: «قرَّرتُ أن أتعلَّم أشياءَ جديدةً، فبدأتُ بدورةٍ في فنِّ النحتِ مع ابني آسر. كانت تجربةً ممتعةً للغاية، ولم أكن أتخيَّل أنني سأجلسُ فيها نحو خمسِ ساعاتٍ متواصلةٍ، وأنا منغمسةٌ في تشكيلِ القطع. لقد وجدتُ فيها متعةً خاصَّةً. بعدها، التحقتُ بدوراتٍ في فنِّ الديكوباج حيث خضعتُ لأربعٍ منها، واستمتعتُ بها كثيراً، وصنعتُ خلالها عديداً من الأعمالِ الجميلة من أطباقٍ ولوحاتٍ، إلى أوَّلِ هديةٍ، أصنعها لحفيدتي في عيدِ ميلادها الأوَّل. سعادتي بها لا تُوصف».
تضيفُ: «أخيراً، بدأتُ في تصنيعِ الحقائبِ من الخوص، لذا عندما أسافرُ إلى بلدٍ جديدٍ، أجلبُ منه قطعاً مميَّزةً، تعكسُ طابعه التراثي، وأضيفها إلى إحدى الحقائب، لتتحوَّلَ إلى قطعةٍ فنيَّةٍ فريدةٍ، تحملُ بصمةً من هذا المكان. أيضاً، وجدتُ شغفاً في إعادةِ تدويرِ ملابسي وإكسسواراتي حيث أضيفُ إليها لمساتي الخاصَّة، ما يمنحها حياةً جديدةً بروحي وأفكاري».
كلُّ هذه الهوايات، جعلنا نستفسرُ منها عن السرِّ وراءَ الاستمرارِ بها، واكتشافِ كلِّ جديدٍ، فذكرت الدغيدي: «مررتُ بفتراتٍ طويلةٍ من المرض، أدركتُ خلالها قيمةَ الوقتِ أكثر من أي زمنٍ مضى، لذا أحرصُ دائماً على استغلالِ كلِّ لحظةٍ أكون فيها بصحَّةٍ جيِّدةٍ. عندما أصبتُ بالروماتويد، شعرتُ بالحزنِ في البداية، إذ خشيتُ أن أفقدَ القدرةَ على ممارسةِ هواياتي في الخياطةِ والكروشيه، لكنَّني لم أستسلم أبداً، وتمسَّكتُ بالأمل، ومع مرورِ الوقت، تحسَّنت حالتي، ولم أترك أياً من هواياتي. أحاولُ دائماً استغلالَ كلِّ لحظةٍ، أشعرُ فيها بالنشاطِ والإبداع، لأكون مُنتِجةً، وأحقِّقَ أشياءَ جميلةً، تعكسُ شغفي بالحياة».
ما رأيك بمتابعة هذا اللقاء مع الفنانة هناء السجيني
أسرار زواجها الناجح

عاشت المهندسةُ منى الدغيدي وزوجها المهندسُ أشرف ياسين قصَّةَ حبٍّ قويَّةً واستثنائيَّةً، استمرَّت عقوداً. حكت لنا أسرارَ زواجها الناجحِ بالقول: «علاقتي بأشرف، بدأت في طفولتنا، فعائلتانا كانتا تعرفان بعضهما، وكنا صديقَين مقرَّبَين جداً. نشأنا معاً منذ أن كنا في الثالثةِ من عمرنا، وهذا ما يجعلنا متشابهَين في كثيرٍ من الأمور. لقد تربَّينا معاً، وتشاركنا عديداً من الذكرياتِ والتجارب».
وتزيدُ: «أشرف، هو الداعمُ الأساسُ لي، ليس فقط في حياتي، بل وفي حياةِ ابنينا أيضاً. هو السندُ الذي يستندُ إليه آسر وإسلام، ويأخذان مشورته في كلِّ تفاصيلِ حياتهما. بالطبع، نختلفُ كثيراً، كما هو الحالُ في أي بيتٍ، لكنْ ما يُميِّز علاقتنا، هو الاحترامُ المتبادل. أشرف يُقدِّر طريقةَ تفكيري، ويمنحني المساحةَ لتكوين نفسي، وهذا ما يجعلُ علاقتنا قويَّةً ومتوازنةً على الرغمِ من كلِّ الاختلافات».
حب الفن في العائلة
ورثَ آسر وإسلام حبَّ الفنِّ من والدتهما منى الدغيدي، إذ غرست فيهما منذ الصغرِ عشقَ الألوانِ والإبداع. عن ذلك تذكر: «آسر، يملك موهبةً رائعةً في الرسم، ويحرصُ على تطويرها عبر حضورِ دوراتٍ تدريبيَّةٍ، بينما يميلُ إسلام إلى القراءة، فهي هوايته المفضَّلة. عندما كانا طفلَين، كنت أشتري لهما قطعَ قماشٍ بيضاءَ، ليرسما عليها، ويُعبِّرا عن إبداعهما بالألوان، وكنت أوجِّههما لاكتشافِ، وتنميةِ مواهبهما. آسر دائماً ما يقولُ إنه ورثَ موهبته الفنيَّة مني فقد كنت أعشقُ التمثيلَ، والغناءَ، والعزفَ على البيانو منذ أيامِ المدرسة».
ومثل أي أمٍّ، شعرت منى بالقلقِ حين قرَّر آسر ترك الهندسةِ، والتوجُّه لعالمِ الفنِّ، خاصَّةً أن المجالَ كان جديداً عليه، وهو ما ترويه بالقولِ: «مثل أي أمٍّ، أحسستُ بالقلقِ من خوضه مجالاً جديداً، لا نعرفُ عنه الكثير، لكنْ اليوم، وبعد نجاحه وتألُّقه، أشعرُ بسعادةٍ كبيرةٍ، لأنه سارَ وراءَ شغفه، وحقَّق ذاته في عالمِ الفنِّ تماماً كما أفرحُ بنجاحِ إسلام في عالمِ الهندسة. الأهمُّ بالنسبةِ لي، هو أن يسلك كلٌّ منهما الطريقَ الذي يُحبُّه، ويجدُ فيه نفسه».
يمكنك متابعة الموضوع على نسخة سيدتي الديجيتال من خلال هذا الرابط