أثار القرار الذي اتخذه وزراء الصحة العرب بمنع المسنين والأطفال وبعض المرضى من أداء مناسك الحج هذا العام بسبب مخاوف انتشار وباء إنفلونزا الخنازير، جدلا بين علماء في الشريعة الإسلامية، وفيما لازال قرار وزراء الصحة العرب يحتاج إلى تصديق حكومات الدول المعنية، بما فيها السعودية، واعتبره بعض رجال الدين جائزا من الناحية الشرعية، أكد البعض الآخر ضرورة إعادة صياغة القرار بما يتناسب مع المصلحة العامة.
«سيدتي» أجرت تحقيقا حول الموضوع واطلعت على مقترحات وزوايا جديدة طرحها المختصون والعلماء في القضية آملين بها أن تصب في المصلحة العامة للمسلمين.
الدكتور عبد السلام العبادي، أمين عام مجمع الفقه الإسلامي، دعا في تصريح خاص ل«سيدتي» العلماء والمختصين الذين وضعوا القرار الى تحري مصلحة المسلمين في وضعه، والتمييز بين أداء الحج فريضة وأدائه تطوعاً وأكثر من مرة للحد من الازدحام في الحج. وقال إن المنع قائم على الاحتياط والأخذ بغلبة الظن، وإلا فإن العلاج قد يحقق هدفه حتى مع كبار السن، وهذا منهج إسلامي معتمد في التعامل مع المرض الوبائي، فقد ورد في الحديث الصحيح عند البخاري وغيره «إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها»، فهو حديث شريف يضع قواعد الحجر الصحي في الإسلام القائم على الاحتياط وغلبة الظن، وأهل الاختصاص والمعرفة والمسؤولية في الشأن الصحي في بلاد المسلمين، هم أهل الذكر في هذا المجال، وعليهم أن يبذلوا وسعهم في تحري مصلحة المسلمين في شأن أدائهم لشعائرهم وعباداتهم ومحافظتهم على حياتهم ومصالحهم الشرعية المعتبرة، ومن ذلك، وبالإضافة لما اتخذوه من قرارات طبية، إمكانية التمييز بين أداء الحج فريضة وأدائه تطوعاً وأكثر من مرة للحد من الازدحام في الحج. ولقد أقام الإسلام تعامله مع شؤون الحياة المتعددة على منهج واضح بين يحرص على تحقيق مصالح الناس وخيرهم وسعادتهم بوسطية واعتدال، وبعيدا عن الإفراط والتفريط، كما أن الطلب أو النهي الشرعي فيما يتعلق بحياة الإنسان، وما يمكن أن يتعرض إليه من أمراض وأخطار وكيفيات التعامل معها مقرر في الشريعة على ضوء ما يبينه الأطباء المختصون، وهذا يسجله بكل وضوح قوله تعالى«فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» والدعوة الى التداوي والأخذ بالأسباب في العلاج وطلب الشفاء, فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول «تداووا عباد الله فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء غير الهرم» ولا يجوز للعالم الشرعي أن يتقول في هذا المجال، إنما عليه أن يعتمد ما يقرره الأطباء المختصون دون غيرهم، ومن هنا جاء الاعتبار الشرعي لقرارات مجلس وزراء الصحة العرب، باعتبارهم الجهة المعنية بهذا الشأن، شريطة أن تكون قراراتهم قائمة على المعرفة العلمية والسليمة بحسب القواعد المعتمدة في هذا الشأن، وقد أوضحوا في قراراتهم أن استبعاد كبار السن والأطفال والمرضى وفق ما حددوه من ترتيبات الحج والعمرة هو لمظنة تعرضهم للخطر أكثر من غيرهم، ومن باب الحيطة والحذر والأخذ بالأسباب الظاهرة، ولكنهم لا يقطعون بشأن هذه الحالات أنها سوف تتعرض للخطر وحدها دون غيرها، ولا يقطعون أيضا ان غيرها لا يمكن أن يتعرض للخطر، فالقرار مبني على غلبة الظن، وسبب الموت على القطع كما هو معلوم شرعاً هو انتهاء الأجل، والامراض مناسبات لذلك، فحسب، وبذا يظهر أن على العالم الشرعي احترام القرار الطبي السليم بهذا الخصوص.
ممرض لا يورد على مصح
الدكتور محمد النجيمي الأستاذ بالمعهد العالي للقضاء وعضو مجمع الفقه الإسلامي قال: نحن نثمن قرارات مجلس وزراء الصحة العرب المتعلقة بمنع الحج والعمرة هذا العام لبعض الفئات، ولكن طالما أن الذين توفوا ظهر أن منهم نسبة من الشباب، فالأفضل أن يعاد النظر في عملية المنع، ليضعوا ضوابط مناسبة، فمن الممكن أن تتفاهم المناطق الموبوءة مع الدولة التي يقدم لها الحجاج فيما يتعلق بعملية المنع، فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يورد ممرض على مصح، وبالتالي نهى أن يورد أشخاص من مكان موبوء على مكان غير موبوء، وأتمنى من وزراء الصحة العرب ومنظمة الصحة العربية، أن يعيدوا النظر في الموضوع وأن تعاد دراسته، فالوضع خطير ولا يمكن أن يبقى كما هو عليه، وإن أصبح لدينا وباء، فستصبح لدينا حالات بمئات الألوف، ولن تستوعب المرافق الصحية في مكة والمدينة بل وفي السعودية الوضع، وفي هذه الحالة إن اقتضى الأمر فمن الوارد منع الحج والعمرة لهذا العام، فالأمر في منتهى الخطورة.
الحج فريضة الله
الدكتور خالد القاسم المشرف على كرسي الأمير سلطان بن عبد العزيز للدراسات الإسلامية المعاصرة وأستاذ العقيدة في جامعة الملك سعود, يقول: لا شك أن وزراء الصحة العرب بحثوا عن مصلحة شعوبهم، منطلقين من حماية الناس من الأوبئة، وهو ما يشكرون عليه، ولكن في الحقيقة إن الحج شعيرة عظيم، فالحج أحد أركان الإٍسلام: «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا»، تأمل كلمة «سبيلاً»، و«لله»، أي فريضة الله لا أحد يمنعها إلا لحجة عظيمة جدا، ويخشى أن يكون القرار فيه صد عن سبيل الله، فلابد لمن يضع مثل هذا القرار أن يدرسه بشكل مناسب جدا، وأن يشترك في هذا القرار هيئة كبار العلماء وعلماء شرعيون وليس فقط أطباء ووزراء صحة، ولا بد أن نحسن الظن بهم، وفي رأيي، وليس فتوى، فإن قضية الأمراض المزمنة والمعدية وكبار السن يجب أن تدرس بعناية، فقد يكون هناك رجال كبار في السن ولكن أصحاء، وقد يلزم المسلم أن يأخذ طفله معه الى الحج لحاجة شديدة وعدم وجود آخر يعتني بطفله، ولهذا نرى أن تعاد دراسة القرار بما يتناسب والمصلحة العامة.
وفيما أعرب مفتي السعودية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ عن خشيته من أن يكون ما يكتب عن إنفلونزا الخنازير يتضمن الكثير من المبالغة والتهويل، في إشارة إلى دعوات بالامتناع مؤقتا عن تأدية مناسك الحج، في نفس السياق أفاد الدكتور مصطفى المخدوم أستاذ الدراسات الإسلامية واللغة العربية بجامعة طيبة بقوله: الأصل في القضية أنه لا يجوز منع القاصدين لبيت الله الحرام من أداء النسك، بل توعد بالعقوبة لمن يفعل ذلك فقال الله تعالى:
«وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون»
فجعله سببا لعذاب الأمم والشعوب، ولكن إن وجدت المصلحة الشرعية العامة التي تضع شيئا من المنع المؤقت والمحدود، فهذا له أصل شرعي أيضاً، كما جاء في حديث صحيحي البخاري ومسلم قال الرسول الكريم «ّإذا سمعتم بالطاعون نزل أرضا فلا تخرجوا منها، وإذا دخل أرضا فلا تدخلوها»، فالنبي منع الخروج والدخول الى الأماكن الموبوءة، الطاعون هو وباء عام، وهو الأصل من الناحية النظرية، والمسألة من الناحية الواقعية، أنه لا بد لأهل الاختصاص من تحديد أكثر دقة لدرجة الوباء، وانتشاره والشفاء منه والعلاج منه، هل الوباء قاتل وما نسبة درجة الخطورة والمفسدة، وهو ما تفيد به الجهات الصحية، والإجابة الشرعية مبنية على الإجابة الطبية في هذا الموضوع، وإن حدد أن هذا الوباء عام وليس له علاجات، واحتمالية انتشاره كبيرة وهو الغالب على الظن، فوقتها نطبق المنع المحدود من أجل المصلحة العامة، ونخشى أن هناك تهويلا إعلاميا لموضوع إنفلونزا الخنازير، ونود من أهل الاختصاص إجابات لا تخضع لقانون التضخيم، ولا أيضا للتهوين من خطر حقيقي يهدد صحة الناس، ومن ثم تأتي الإجابة الشرعية مبنية عليها، وحالات الوفيات من المرض أعلم عنها أنها من فئة الشباب، فالمقياس هو المناعة، فشيخ كبير قد تكون مناعته أفضل من مناعة شاب، أما من الناحية الطبية فالغالب أن شريحة الشباب هم من لديهم مناعة أقوى، ولكن هناك حالات شاذة عن القاعدة قد تكون مناعتها ضعيفة ضد المرض.
فئات متساوية في الحكم
من جهته أفاد العالم والداعية السعودي الشيخ عوض القرني أن مثل هذا القرار يجوز اتخاذه «إذا كان مبنيا على دراسة علمية حقيقية ترجح أن حج الفئات المذكورة سيشكل خطورة عليها أو يحتمل أن يشكل وجودها في الحج أو العمرة خطرا على غيرها»، وأنه لا يعلم الحيثيات العلمية والطبية التي تم الاستناد إليها لاتخاذ هذا القرار، لكن إذا تبين من خلال بحث علمي حقيقي أن حج هذه الفئات يشكل خطرا على صحتها أو على صحة غيرها فيجوز اتخاذ مثل هذا القرار مؤقتا، أما إذا كانت هذه الفئات متساوية مع غيرها في الأمر، وليس هناك مزيد خطورة يشكلها سنها أو مرضها، فلا يجوز أن تفرد عن غيرها بحكم».
تفاصيل أوسع تابعوها في العدد 1485 من مجلة "سيدتي" المتوفر في الأسواق.