تُعدُّ الصحة النفسية في غاية الأهمية بالنسبة إلى البشر جميعاً حتى في الأوقات العادية، لكنها تصبح أكثر أهميةً عند انتشار الأوبئة والأزمات، مثل جائحة فيروس كورونا المستجد «كوفيد 19» التي تضرب العالم حالياً؛ إذ غالباً ما تتسبَّب هذه الأزمات في حالة قلقٍ وخوفٍ للناس، ولا سيما الذين يواجهونها مباشرةً، إضافة إلى إصابة بعضهم بالاكتئاب الشديد.
ويزداد هذا الأمر أهميةً بالنسبة إلى الممارسين الصحيين من أطباء بمختلف تخصصاتهم وممرضين وممرضات، الذين يعملون اليوم في الخطوط الأمامية لمواجهة الفيروس، ويتأثرون بذلك في حياتهم الاجتماعية؛ حيث يفضل كثيرٌ منهم الابتعاد عن أسرته خشية نقل كورونا إليهم، ما يتسبَّب له في حالة توتر وقلق شديدة.
ونظراً لخطورة وأهمية هذا الأمر؛ التقينا في «سيدتي» الدكتور السعودي إبراهيم الفريح، استشاري الطب النفسي والطب النفسي الجسدي والمتخصص في الصحة النفسية في مكان العمل، الذي قدَّم نصائح للممارسين الصحيين للتخلص من الضغوطات الناتجة عن مواجهتهم أزمة كورونا.
الرفاه النفسي
بدايةً، أكد الدكتور إبراهيم الفريح، أن التمتع بالصحة النفسية، يُمكِّن الإنسان من التماسك، والحفاظ على رباطة جأشه، والقدرة على المقاومة واجتياز الضغوطات النفسية التي يتعرض لها خلال أي فترةٍ حرجة يمرُّ بها، مبيناً أن «هذا الأمر كما ينطبق الأمر على الأفراد، ينطبق كذلك على المجتمعات بشكل عام للحفاظ على التماسك الاجتماعي، والقدرة على ضمان دوران عجلة التنمية، وتجنُّب تفشي حالة الهلع والذعر التي تصاحب مثل هذه الفترات الصعبة، وتؤدي إلى سلبيات لا حصر لها».
وتحدث عن مفهوم الصحة النفسية بالقول: «منظمة الصحة العالمية تُعرِّف الصحة النفسية بأنها حالة من العافية والرفاه النفسي التي تمكِّن الفرد من القدرة على القيام بمختلف أدواره الحياتية المتعددة والمختلفة، وفي شتى مناحي حياته الأسرية والاجتماعية والعملية وغيرها، والتعاطي مع الضغوطات المرتبطة بذلك، بما يكفل تجاوز هذه الضغوطات الحياتية بشكل صحي وسليم. كما تعدُّ الصحة النفسية جزءاً لا يتجزأ من صحة الإنسان بشكل عام، فلا توجد صحة جيدة دون أن يتمتع الإنسان بصحة نفسية جيدة كذلك. ولا يعني مصطلح الصحة النفسية غياب الأمراض النفسية، أو انعدام الاضطرابات النفسية، فالصحة النفسية للإنسان تتأثر بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية والبيئية وغيرها من العوامل الأخرى التي لها تأثير مباشر عليها».
الضغوطات النفسية والاجتماعية
وأوضح الدكتور الفريح، أن الظروف الحالية الناجمة عن انتشار فيروس «كوفيد 19»، ولَّدت ضغوطات نفسية واجتماعية هائلة مرتبطة بانتشار وتفشي الجائحة، وكذلك الإجراءات الاحترازية والتدابير الصحية التي تم اتخاذها من أجل الحد من العدوى ومنع انتشار الفيروس، سواءً على مستوى الحكومات، أو الأفراد؛ لذا من الطبيعي أن يشعر الإنسان ببعض القلق والخوف على صحته وصحة مَن يحبهم سواءً من عائلته، أو الأقارب والأصدقاء، وكذلك زملاء العمل، كاشفاً عن أنه «قد يُصاحب هذه المشاعر إحساسٌ بالعزلة والوحدة في ظل عدم القدرة على التواصل مع الآخرين كما كان عليه الحال في السابق قبل انتشار الجائحة، إضافة إلى مشاعر أخرى، مثل الخوف من المجهول، وعدم اليقين من القدرة على تجاوز الأزمة، ومدى تأثيراتها على حياة البشر، والشعور بالذعر والهلع نتيجة المتابعة المستمرة والكثيفة لوسائل الإعلام والأخبار المتعلقة بجائحة كورونا، خاصةً إذا كانت هذه المتابعة تتم عبر مصادر إعلامية غير موثوقة، أو رسمية؛ ما يجعل الإنسان فريسة للمعلومات المغلوطة والشائعات التي تكثر في مثل هذه الأزمات».
وذكر أنه «من الشائع كذلك تأثر جودة النوم ونشاط الإنسان وطاقته، وحتى تركيزه بمثل هذه الظروف نتيجة عوامل عدة متعلقة بالضغوطات المرتبطة بالجائحة، أو الإجراءات الاحترازية للحد منها، إضافة إلى تأثير التغير المفاجئ للروتين اليومي والحياتي للإنسان في المنزل والعمل، واجتماعياً أيضاً».
الإجهاد النفسي للممارسين الصحيين
وكشف الدكتور الفريح عن أن الممارسين الصحيين، والعاملين في الصفوف الأولى للتعامل مع جائحة كورونا في مختلف القطاعات، يشعرون بالتوتر والإجهاد النفسي، ويعدُّ هذا الأمر طبيعياً في ظل التحديات الكبيرة التي يواجهونها، من أهمها حدوث ضغط كبير على الأنظمة الصحية بسبب ارتفاع أعداد الإصابة بالفيروس بشكل متسارع، وخوفهم على أسرهم وأقربائهم، خاصةً في ظل عدم قدرتهم على البقاء إلى جانبهم بشكل مستمر نتيجة ما تتطلبه أعمالهم من مهام يومية بطولية وضرورية للتصدي لجائحة «كوفيد 19».
إستراتيجيات الصحة النفسية للكوادر الصحية
وعدَّد إستراتيجياتٍ مهمة للحفاظ على سلامة وصحة الممارسين الصحيين والعاملين في الصفوف الأولى للتصدي لفيروس كورونا، وهي: تلبية الاحتياجات الأساسية لهم، ودعمهم في أماكن عملهم بشكل كبير من خلال توفير الطعام والشراب الصحي لهم، والحرص على حصولهم على النوم بانتظام، وعدم تعريضهم للحرمان، أو الضغط النفسي، أو تفويت وجبات الطعام، وكذلك من الأمور المهمة تخصيص أوقات للراحة لشحن طاقاتهم، ومن الجيد ممارسة أنشطة ليس لها علاقة بالعمل، مثل المشي، وممارسة الأنشطة الرياضية، والتحدث مع صديقٍ، وقراءة كتابٍ، ولا بد كذلك من توفير قنواتٍ لدعم الممارسين الصحيين والعاملين في الصفوف الأولى بمختلف القطاعات لمواجهة فيروس كورونا، وتأمين قنواتٍ للتواصل فيما بينهم، وإتاحة الفرصة لهم للتحدث عن ظروف العمل التي يعيشونها في ظل تفشي كورونا، مثل التحدث عن ضغط العمل، أو الحالات التي يقومون برعايتها، والتعبير عن مشاعر الخوف والقلق وشكوك الكفاءة والفاعلية وكذلك الحزن، التي قد تعتريهم؛ فهذا التواصل يخلق مجموعات دعمٍ تكفل لهم الإحساس بالتعاون وكفالة بعضهم بعضاً، كما أن انتباه العاملين في الصفوف الأولى لمواجهة فيروس كورونا إلى قيمة العمل الذي يقدمونه وأهميته، وحجم تأثيره في البشر، وتذكيرهم بذلك من الأمور التي قد تساعد في منحهم الطمأنينة والاستقرار، وتشحذ هممهم وطاقاتهم من جديد، وأخيراً من المهم عدم التردد في طلب المساعدة من المختص النفسي للتقييم والوقاية والدعم عند الحاجة.
الاعتراف أولى خطوات الحل
وبيَّن الدكتور الفريح طرق التعامل مع الضغوطات النفسية والاجتماعية في ظل انتشار جائحة «كوفيد 19»، كاشفاً عن أنها تتمثل في الاعتراف، والانتباه إلى وجود مشاعر القلق والتوتر، مع العلم أنها مشاعر طبيعية «مؤقتة»، يشعر بها كل إنسان، إضافة إلى مشاعرَ مثل الحزن العابر، والقلق، وتعكُّر المزاج البسيط، والإحساس بالوحدة والعزلة والتباعد الاجتماعي، والخوف من المجهول، وعدم اليقين، وكل هذه المشاعر وغيرها، تعدُّ مشاعر طبيعية ولا تؤشر إلى اضطراب، أو مرض نفسي.
تجنب أخبار الفيروس
ورأى أن من الأمور المهمة في التعامل مع الضغوطات النفسية، التي تصاحب جائحة كورونا، تجنُّب المتابعة المستمرة والمتكررة لأخبار كورونا، خاصةً عبر مصادر غير رسمية، أو غير موثوقة؛ فكثرة الاطلاع المستمر تعرِّض الإنسان للوقوع في فخ الشائعات والمعلومات الخاطئة التي كثيراً ما تثير الذعر والهلع.
وأوضح أن من الطرق العملية كذلك، لتجنب تأثير المتابعة المستمرة لأخبار كورونا؛ إلغاء اشعارات المواقع الإخبارية ومنصات التواصل الاجتماعي المتعلقة بالجائحة.
تصفح المصادر الموثوقة
ونصح الدكتور الفريح الممارسين الصحيين وأفراد المجتمع بتصفح مصادر المعلومات الموثوقة، مثل تصريحات وزارة الصحة السعودية، ومنظمة الصحة العالمية، والجهات الحكومية المعنية بشأن جائحة كورونا، وعدم الإفراط في متابعة الأخبار لتجنب تزايد المشاعر السلبية المصاحبة لهذه الجائحة.
الحفاظ على الروتين اليومي
كما أكد أن من النصائح التي تساعد على تعزيز الصحة النفسية إيجادُ روتين حياة يومي خلال هذه الأزمة للحفاظ على قدر من الاستقرار في المنزل والعمل.
ممارسة الرياضة
وشدَّد على ضرورة ممارسة الرياضة بشكل كبير؛ إذ إنها تؤثر إيجاباً في قدرة الإنسان على التعامل مع الضغوط، وتسهم في تحسين المزاج وتخفيف القلق، وتقي من المشاعر السلبية، خاصةً الرياضات القلبية، أو التي يُطلق عليها الرياضات الهوائية، فقد أثبت الأبحاث العلمية قدرة الرياضة على تحسين المزاج بشكل كبير، وتخفيف القلق والتوتر، وتحسين جودة النوم والتركيز.
التأمل بشكل دوري
وذكر أن ممارسة التأمل بشكل دوري، وكذلك أداء تمارين الاسترخاء، مثل تمارين التنفس واليوجا، لها قدرة كبيرة على تخليص الإنسان من المشاعر السلبية التي تتسبَّب فيها جائحة كورونا.
الحفاظ على التواصل مع الآخرين
ونصح الدكتور الفريح للتخلص من الشعور بالوحدة والعزلة بالحفاظ على التواصل مع الآخرين من خلال تطبيقات التواصل الاجتماعي، والمكالمات الهاتفية، والرسائل النصية، وغيرها من وسائل التواصل المختلفة والمتعددة، وهنا يجب الانتباه إلى أن التباعد الجسدي لا يعني التباعد الاجتماعي، أو التباعد العاطفي بيننا بوصفنا بشراً.
التركيز على الهوايات
وأشار إلى أهمية القيام بأنشطة بديلة خلال العزلة، وممارسة هوايات قديمة محببة، انشغل عنها بسبب تسارع وتيرة الحياة، والانغماس في العمل، وعدم توافر وقت لممارستها، مثل الكتابة والقراءة، والانخراط في دورات تعليمية عن بُعد، وغيرها من الأنشطة التي يمكن ممارستها داخل المنزل.
الطب الاتصالي
وأكد الدكتور الفريح ضرورة عدم التردد في طلب المساعدة عند الشعور بأعراض شديدة ومستمرة من التوتر والقلق والاكتئاب والضغوطات النفسية، ومن المهم هنا طلب المساعدة من المختصين النفسيين الذين يعملون في الجهات الرسمية؛ لأنهم مؤهلون لتقديم الاستشارات والدعم النفسي عبر تطبيقات الطب الاتصالي من أجل تقديم المساعد وعدم تفاقم أي أعراضٍ.
التحدث مع أفراد الأسرة
وأخيراً، شدد على وجوب تخصيص الوالدين وقتاً للحديث مع أطفالهما، ومشاركتهم ما يدور في أذهانهم، ومحاولة التعرف إلى مخاوفهم، والوقوف على مستوى فهمهم للجائحة، ومنحهم الشعور بالأمان والطمأنينة، وتصحيح المعلومات المغلوطة التي قد يتعرضون لها عبر وسائل التواصل.