لم تبدُ المصممة غادة قنّاش، في سنوات طفولتها، متأكدة من أنها مستقبلاً ستدخل عالم التصميم والفن، كانت طفلة تحلم بأن تكون طبيبة، وجراحة بالتحديد، وستجري جراحات مجانية، فقط لمساعدة الناس، لكن حياتها كانت تعبر عن القدرة في خلق التنظيم في المكان الذي تعيش فيه، بدءاً من مكتبتها وخزانة ملابسها، والصور على جدران غرفتها، حتى تركزت قراءاتها في فترة المراهقة، على تاريخ الفن، كانت تحب الاطلاع على حياة الفنانين وطريقة تفكيرهم، وهي ما زالت تذكر أستاذها الفنان الأردني فؤاد ميمي، في كلية راهبات الناصرة بعمان، الذي كان له دور كبير في توجيه رؤيتها نحو أعمال الفنانين، حتى اتجه تفكيرها تماماً في المرحلة الثانوية ناحية التصميم. إلى عالم هذه المصممة، في The Workshop Dubai قادتنا كاميرا «سيدتي». لنستكشف المكان.
التصميم ليس مجرد شكل، بل مجموعة أفكار، علينا إثراؤها جمالياً، لنطور ما هو تقليدي، بعيداً عن السطحية
أنشأت غادة The Workshop Dubai، وتضم الورشة أربعة مشاريع منفصلة، هو عالم فني متكامل، تحب أن تنتج مشاريعها كلها فيه؛ حيث تجد متعتها في مكتب المصممين المعماريين حيناً، وفي المعرض الفني Art Gallery حيناً آخر، وثم في جناح أسمته «بساط»، للحرف اليدوية والتقليدية، إضافة إلى متجر الهدايا، والمكتبة المليئة بمؤلفات الفن والتصميم، والروايات بلغات عدة، وهي موجودة للاستخدام الحر في القهوة التي تشكل مكان راحة للقادمين. يعكس الغاليري شخصيتها وفلسفتها في التصميم، فهي لا تضع الكثير من الأثاث فيه، فهناك قطع أثاث قديمة من أربعينيات القرن الماضي، أعادت استخدامها، فيما تموضعت الطاولات من حجر بركاني مدهون في الوسط بشكل لافت، والطبليات الخشبية، التي استخدمتها بدلاً من الرفوف، لعرض القطع الفنية عليها، كل ما هو إبداع يدوي، ومعاد استخدامه، تجده في هذا المكان، الذي يرسم صورة الزمن الجميل.
مكتبة الحي
عند باب المشغل، كانت هناك مجموعة من الكتب، التي يضعها المارة المتبرعون من جميع الجنسيات، ليتمكن آخرون من قراءتها، وهو ما أطلقت عليه غادة مكتبة الحي، يديرها سكان الحي أنفسهم، الذين تجمعهم نظرة واحدة، هي حب الفن والثقافة. تقول غادة: «في داخلي عشق لأقدم الكثير لمن حولي، وأكون على تواصل معهم، لذلك درست هندسة العمارة، تعرفت من خلالها إلى تاريخ العمارة وفلسفتها، أحببت ماهية أنها تعكس حضارة البشر وطباعهم؛ حيث يمكن أن أتعرف إلى الناس من خلال عماراتهم وثقافتهم».
اتجاهات الضوء
التصميم من وجهة نظر غادة، ليس مجرد خربشات، بل لا بد من تكوين فكرة أساسية أولاً، فشراء كرسي يزين مساحة في البيت، يحتاج إلى فكرة، وتخطيط مسبق عن المكان الذي يناسبه، وهذا بحد ذاته ما يوصلنا إلى ابتكار منزل، تستدرك قائلة: «بعكس ما يتخيل بعض الناس الذين لا يحاولون قراءة المخططات التصميمية، ويعتقدون أن الاستغناء عن المصمم المعماري والداخلي، أمر ممكن، فهم لا يضعون في أذهانهم أن ذلك الجهد الذي يبذله المقاول في البناء، هو ما يعطي أبعاد المكان فقط، لكن التصميم هو الأساس، فالمصممون يفكرون بمن سيستخدم المكان، وما حاجته التي تتلاءم مع شخصيته، فنحن نحاول فهم اتجاهات الضوء، والتاريخ الثقافي للأرض، هذا كله في النهاية يصب في التصميم، سواء كان ناجحاً، يذكر في المحافل الإعلامية، أو مجرد تصميم تجاري».
نقترح عليك قراءة اللقاء الخاص مع المصمم فريديريك أمبار Frederic Imbert : لست فناناً بل مصمّم يقدم العملية على الجمالية
إعلان يحرك الإلهام
أعمال غادة يتلاحم فيها التصميم والفنّ والأدب، لتجتمع في فكرة جذابة مصدر إلهامها، ربما موسيقى ساحرة، أو كلمات معبرة، أو رواية تقرأها، أو فيلماً تتابعه، أو ربما مجرد إعلان في الشارع يحرك الإلهام فيها، تعلّق قائلة: «حتى أحاديثي مع الناس، كلها منافذ إلهام تبني الفكرة في الحاضر لتكون تصميماً فنياً في المستقبل، كما أن قراءاتي المتنوعة وبلغات عدة، وأسفاري تجعلني أمزج بين الثقافتين الغربية والعربية.. بين الشرقي الساحر بتفاصيله، والمعاصر المتوج بالرقي، وأهم شيء هو الحرص الشديد عند اتباع هذا المزج الفني، لأتمكن من إبراز الجمالية التي تحقق الفكرة».
الاستدامة المتوارثة
ورثت غادة هواية جمع الأنتيكات من والدها، الذي هاجر من أراضي الشركس إلى بلاد الشام، والذي كان يحتفظ دائماً بأشياء من جدته، مثل الختم على خاتمها الفضي، والجرن القديم، أشياء وأشياء تمثل محوراً عاطفياً عميقاً في حياة العائلة، وهي الآن تستخدم الأنتيكات التي تجد لها مكاناً داخل التصميم العصري المريح.. قطع تستوقفك فجأة لتفكر بمعناها وما تحمله من ألغاز تزيد من عمق المكان، تستطرد قائلة: «الأنتيكة قطع خضراء، إن جاز التعبير، مستدامة، وهي تساعدني على فكرة إعادة التدوير، الذي دائماً ما أركز عليه، لكن ليس من السهل القول إننا مصممون مستدامون من الألف إلى الياء، ولا بد من وجود علاقة وتكافؤ بين التصميمين الداخلي والخارجي للمنزل، لكنني دائماً مع شراء أنتيكات صديقة للبيئة، وعادة ما أوفرها للمصمّمين في الغاليري الخاص بها، ليبنوا عليها أفكارهم التصميمية الواسعة. فهذه الأخيرة استثمار للمستقبل، وليس بالضرورة أن تكون قطعة متحفية ليخاف الناس من سعرها، بل قطعة أثاث عمرها 25 سنة، يمكن إعادة تنجيد قماشها ودهنها، لتصبح بهيئة جديدة. تخيلوا المجهود البيئي الذي تحتاج إليه قطعة أثاث جديدة لتكون في منزلك، هي سلسلة هدر لطاقات البيئة لا تنتهي».
تتابع غادة إبداعات المعماريين، الذين يضعون على عاتقهم التصميم من الداخل والخارج، فتجتمع الفكرتان لتشكلا روحاً وعالماً واحداً للتصميم، مثل المصمم الأردني عمار خماش، الذي يبدع في فن العمارة التقليدية، التي تصمم أصلاً على مبدأ الاستدامة؛ لأن لها علاقة بالمواد المحلية الموجودة في المنطقة، مثل إذا كانت هذه المنطقة حجرية، يكون الاعتماد على أحجارها كلياً في البناء، تعلّق: «هو يبدع أيضاً في تصميم الأثاث الداخلي المستدام».
نقترح عليك قراءة اللقاء الخاص مع المصممان ندين باك و ديوالد سترويغ Neydine Bak & Dewald Struwig: تصاميمنا تتميز بخطوط جمالية لا تشبه غيرها
التشابك الساحر
في أسبوع دبي للتصميم، عرضت المصممة غادة قنّاش، خريطة طبوغرافية، على شكل بساط، أرادت من ورائها تسليط الضوء على أعمال الحرفيين، ومبدعي الأشغال اليدوية في الوطن العربي، يحكي البساط قصصاً عن المنطقة العربية، ذات التاريخ الواحد، كما تقول، وتتابع: «أردت أن أقول من خلال مشروعي، إننا أرض واحدة، لذلك أردت أن أجمع ذلك التشابك الساحر لحرفيي المنطقة العربية، لأعيد إحياء ما يبدعونه، ولو بعمل فني. أطلقت على عملي كلمة «بساط» التي يستخدمها كل سكان المنطقة، وعملته بصفته خريطة تكشف طبيعة المنطقة من دون الحدود السياسية، مثل نهري الأردن وبردى، وجبل الشيخ، والبحر الميت وغيرها من التفاصيل. وميزت المناطق بالوردة أو الزهرة، التي تتميز بها كل منطقة، فالسوسنة السوداء من الأردن، وورد الدحنون الأحمر الذي يتغنى به الفلسطينيون، والياسمين الدمشقي، والوزال اللبناني. ووزعت الزيتون بالكروشيه، في جميع المناطق، وجمعت أكبر قدر من الأشغال البدوية، مثل التطريز الفلاحي وأعمال الكروشيه، والورد بالحرير، فضلاً عن النسيج النولي الذي تكون منه البساط، وكله كان على أيدي الحرفيين والنساجين».
الاستغناء عن المصمم
لا تفضل غادة دخول التكنولوجيا الحديثة بقوة في التصميم، فبرأيها أن كل ما يغيب العنصر الإنساني تقف ضده؛ لأن حياتها كلها مع الناس، تستوحي فنها منهم، فهي لا ترتاح لفكرة الاستغناء عن المصمم الفنان: «هناك لوحات كاملة تم إنتاجها عن طريق الذكاء الاصطناعي، هي فكرة مخيفة، فالآلة، يمكن توجيهها لتنجز لوحة تضم أسلوب ثلاثة فنانين على سبيل المثال، وهي بعد أن تقوم ببحث طويل، تخرج بلوحة لم ترها عين، وهذا يفوق قدرة أي فنان، فلن يتمكن العقل البشري من تطوير فكرة، والعمل عليها بهذه السرعة، تخيلوا أن يصبح هذا الحال في التصميم أيضاً».
تشير المصممة الأردنية إلى المصممين الشباب الذين يتوجهون ناحية التصميم العالمي، وهذا ما ضيّع ملامح الهوية، بشكل أو بآخر، وتتمنى أن تراهم يعملون بشكل تقليدي أكثر؛ بمعنى أنه أكثر ارتباطاً بالهوية وشخصية المكان وتاريخه، والعمل عليه بعمق، فالقطعة المصممة ليس مجرد شكل، بل هي فكرة أو مجموعة أفكار، لها مسبباتها الوظيفية، علينا إثراؤها جمالياً، لنطور ما هو تقليدي، لكن بعيداً عن السطحية. تعلّق قائلة: «كل ذلك كي نستمر ونترك بصمتنا تحكي عنا».
ومن عالم الديكور نقترح عليك متابعة لقاء المصمم روبرتو لازيروني Roberto Lazzeroni : «التصميم العاطفي» يعزز لدي حرية الإبداع