«أنا لا أحبك يا موتُ.. لكنني لا أخافُك، وأدرك أن سريرك جسمي.. وروحي لحافُكَ، وأدرك أني تضيق عليّ ضفافك. أنا.. لا أحبك يا موتُ..لكنني لا أخافُكَ!»، هكذا خاطب الشاعر الفلسطيني العربي، سميح القاسم، الموت في قصيدة من أجمل أعماله؛ فهل أدرك الموت أن الشاعر الذي أضناه عشقه لفلسطين لأكثر من نصف قرن، مل الحياة بلا حياة، كما قال في قصيدة، وتعب من صمته وصوته وأصبح جاهزاً للرحيل؛ فأخذه منتصب القامة، مرفوع الهامة كما حلم تماماً، رافعاً بيده غصن زيتون!
«يا أيها الموتى بلا موت؛
تعبت من الحياة بلا حياة
وتعبت من صمتي
ومن صوتي
تعبت من الرواية والرواة
ومن الجناية والجناة
ومن المحاكم والقضاة
وسئمت تكليس القبور
وسئمت تبذير الجياع
على الأضاحي والنذور»
مواقف وطنية
لقد كان الوطن حلماً سكن القاسم ولم يغادره؛ فسمّى ابنه «وطن»، ورفض الخدمة الإلزامية في جيش الاحتلال؛ فسجن أكثر من مرة، ومورست عليه كثير من الضغوطات لمواقفه الوطنية، ووضع تحت الإقامة الجبرية، وطرد من عمله أكثر من مرة، وكيف لا وكل قصائده كانت تؤكد عروبة فلسطين، وتحمل تحدياً؟ فقصيدة «تقدموا»، تحولت إلى بيان شعري سياسي يتحدى الاحتلال بأن يهدم روح الناس وحلمهم لبناء وطن، وبأن شعب فلسطين لا يموت.
تقدموا..تقدموا
كل سماء فوقكم جهنم
وكل أرض تحتكم جهنم
تقدموا
يموت منا الطفل والشيخ.. ولا يستسلم
وتسقط الأم على أبنائها القتلى.. ولا تستسلم
تقدموا.. تقدموا
بناقلات جندكم.. وراجمات حقدكم
وهددوا.. وشردوا.. ويتموا.. وهدموا
لن تكسروا أعماقنا.. لن تهزموا أشواقنا
نحن القضاء المبرم..تقدموا..تقدموا
وقد نعى الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، الشاعر الكبير، الذي يمثل أحد رموز فلسطين، للعالم مبيناً حجم فقدانه، ونقلت عنه الوكالة الفلسطينية قوله: «الشاعر القاسم صاحب الصوت الوطني الشامخ، رحل بعد مسيرة حافلة بالعطاء، والذي كرّس جل حياته مدافعاً عن الحق والعدل والأرض».
لا حدود بين الأسرة والوطن
حين وقعت النكبة، كان في التاسعة من عمره، ويعتبر أنه المصدر الأكثر مصداقية في تاريخ النكبة؛ لأنه عاصرها واستوعب كل تفاصيلها في الرام والقدس وبئر السبع، وفي العواصم العربية..
إنه مؤسس صحيفة كل العرب ورئيس تحريرها الفخري، ولد يوم 11 مايو 1939، وتعلم في مدارس الرامة، والناصرة؛ ليعمل بعدها مدرساً، ويتفرغ في مراحل حياته الأخيرة للكتابة والعمل الأدبي. والدته ابنة شيخ فقيه، نشأت في بيت ثقافي منفتح على العمل الوطني، ووالده ضابط في الجيش العربي، تجول في العالم خلال خدمته العسكرية، وكان يخشى على ابنه من الكلمات التي يكتبها ومن السلطة والفقر، ويعتبر أن الشعر لا يغني من جوع، وقد تزوج سميح القاسم ورزق بـ«وطن ووضاح وعمر وياسر»، ويعترف في حديث صحفي له بأنه لا يستطيع الفصل بين الوطن والأسرة، ولا يستطيع أن يرى أشجار الزيتون دون أن يرى والده ووالدته وأبناءه والأرض التي سلبت.
القاسم ودرويش
في نفس الشهر الذي رحل فيه صديقه محمود دوريش، رحل سميح القاسم؛ فهل كانا على موعد، وهل حن لرسائل الصديق التي لم تعد تصل؛ فمضى بنفسه محملاً بحكايات الوطن وبرسائل لنا يتاح لنا قراءتها؟
كيف لا وقد تعاهد الشاعران وبعد أن افترقا في السبعينات، عندما هاجر محمود درويش إلى باريس، على تبادل الرسائل لتكون في كتاب؟ وقد بدأ تبادل الرسائل في منتصف الثمانينات، وكانت تلك الرسائل تنشر أسبوعياً، لتجمع بعدها في كتاب، وأول رسالة كانت من درويش في يوم ميلاد القاسم وأتت مطولة، كتب فيها:
عزيزي سميح
كم تبهجني قراءة الرسائل...! وكم أمقت كتابتها؛ لأني أخشى أن تشي ببوح حميم قد يخلق جواً فضائحياً لا ينقصني، حتى تحولت هذه الخشية إلى مصدر اتهامات لا تحصى، ليس أفدحها التعالي كما هو رائج!
ولم يلبث سميح أن رد برسالة مطولة أخرى بدأها:
أخي محمود:
إذن، هكذا نكف قليلاً عن عبث الغربة ونخترع لأنفسنا لقاءً ما، وها أنت منذ رسالتك الجديدة «لماذا تسميها رسالة أولى؟» تقترح بذكائك الذي أعرفه قاعدة للعبة، وكأنك لا تعرف أخاك في عناده «برج الثور» وشهوته الفادحة للعب بالقواعد!» نحن مطالبان بألا نشوه صورة نمطية أعدتها لنا المخيلة العامة.
هكذا تقول في رسالتك، هديتك الرائعة لي في يوم ميلادي المروع، لا بأس عليك يا أخي الحبيب؛ فهناك من هم أقدر منا على تشويه «صورتنا النمطية هذه»، أما نحن فما علينا إلا أن نرمم «المخيلة العامة».
وعندما رحل درويش، انفرط عقد الرسائل، وشعر القاسم بالوحدة، وأن صديقه تخلى عنه ومضى؛ فرثاه بقصيدة هي أشبه بالعتاب لتركه وحيداً متسائلاً بأسى: لمَ لمْ تأخذني معك؟
«خذني معك»:
تخليت عن وزر حزني
ووزر حياتي
وحملتني وزر موتك،
أنت تركت الحصان وحيداً.. لماذا؟
وآثرت صهوة موتك أفقاً،
وآثرت حزني ملاذاً
أجبني. أجبني.. لماذا؟
لقد كان القاسم مع الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، والذي توفي قبله بست سنوات وفي ذات الشهر، من أهم رموز أدب المقاومة الفلسطينية، تشاركا خلال حياتهما حبهما لفلسطين والوطن والنكبة الفلسطينية بتفاصيلها؛ ليخرجا بمؤلفات مملوءة بالفكر والإبداع، ستبقى منهلاً للأجيال القادمة، ومنبعاً لا ينضب للمشاعر الإنسانية والوطنية.
«يا أيها الموتى بلا موت؛
تعبت من الحياة بلا حياة
وتعبت من صمتي
ومن صوتي
تعبت من الرواية والرواة
ومن الجناية والجناة
ومن المحاكم والقضاة
وسئمت تكليس القبور
وسئمت تبذير الجياع
على الأضاحي والنذور»
مواقف وطنية
لقد كان الوطن حلماً سكن القاسم ولم يغادره؛ فسمّى ابنه «وطن»، ورفض الخدمة الإلزامية في جيش الاحتلال؛ فسجن أكثر من مرة، ومورست عليه كثير من الضغوطات لمواقفه الوطنية، ووضع تحت الإقامة الجبرية، وطرد من عمله أكثر من مرة، وكيف لا وكل قصائده كانت تؤكد عروبة فلسطين، وتحمل تحدياً؟ فقصيدة «تقدموا»، تحولت إلى بيان شعري سياسي يتحدى الاحتلال بأن يهدم روح الناس وحلمهم لبناء وطن، وبأن شعب فلسطين لا يموت.
تقدموا..تقدموا
كل سماء فوقكم جهنم
وكل أرض تحتكم جهنم
تقدموا
يموت منا الطفل والشيخ.. ولا يستسلم
وتسقط الأم على أبنائها القتلى.. ولا تستسلم
تقدموا.. تقدموا
بناقلات جندكم.. وراجمات حقدكم
وهددوا.. وشردوا.. ويتموا.. وهدموا
لن تكسروا أعماقنا.. لن تهزموا أشواقنا
نحن القضاء المبرم..تقدموا..تقدموا
وقد نعى الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، الشاعر الكبير، الذي يمثل أحد رموز فلسطين، للعالم مبيناً حجم فقدانه، ونقلت عنه الوكالة الفلسطينية قوله: «الشاعر القاسم صاحب الصوت الوطني الشامخ، رحل بعد مسيرة حافلة بالعطاء، والذي كرّس جل حياته مدافعاً عن الحق والعدل والأرض».
لا حدود بين الأسرة والوطن
حين وقعت النكبة، كان في التاسعة من عمره، ويعتبر أنه المصدر الأكثر مصداقية في تاريخ النكبة؛ لأنه عاصرها واستوعب كل تفاصيلها في الرام والقدس وبئر السبع، وفي العواصم العربية..
إنه مؤسس صحيفة كل العرب ورئيس تحريرها الفخري، ولد يوم 11 مايو 1939، وتعلم في مدارس الرامة، والناصرة؛ ليعمل بعدها مدرساً، ويتفرغ في مراحل حياته الأخيرة للكتابة والعمل الأدبي. والدته ابنة شيخ فقيه، نشأت في بيت ثقافي منفتح على العمل الوطني، ووالده ضابط في الجيش العربي، تجول في العالم خلال خدمته العسكرية، وكان يخشى على ابنه من الكلمات التي يكتبها ومن السلطة والفقر، ويعتبر أن الشعر لا يغني من جوع، وقد تزوج سميح القاسم ورزق بـ«وطن ووضاح وعمر وياسر»، ويعترف في حديث صحفي له بأنه لا يستطيع الفصل بين الوطن والأسرة، ولا يستطيع أن يرى أشجار الزيتون دون أن يرى والده ووالدته وأبناءه والأرض التي سلبت.
القاسم ودرويش
في نفس الشهر الذي رحل فيه صديقه محمود دوريش، رحل سميح القاسم؛ فهل كانا على موعد، وهل حن لرسائل الصديق التي لم تعد تصل؛ فمضى بنفسه محملاً بحكايات الوطن وبرسائل لنا يتاح لنا قراءتها؟
كيف لا وقد تعاهد الشاعران وبعد أن افترقا في السبعينات، عندما هاجر محمود درويش إلى باريس، على تبادل الرسائل لتكون في كتاب؟ وقد بدأ تبادل الرسائل في منتصف الثمانينات، وكانت تلك الرسائل تنشر أسبوعياً، لتجمع بعدها في كتاب، وأول رسالة كانت من درويش في يوم ميلاد القاسم وأتت مطولة، كتب فيها:
عزيزي سميح
كم تبهجني قراءة الرسائل...! وكم أمقت كتابتها؛ لأني أخشى أن تشي ببوح حميم قد يخلق جواً فضائحياً لا ينقصني، حتى تحولت هذه الخشية إلى مصدر اتهامات لا تحصى، ليس أفدحها التعالي كما هو رائج!
ولم يلبث سميح أن رد برسالة مطولة أخرى بدأها:
أخي محمود:
إذن، هكذا نكف قليلاً عن عبث الغربة ونخترع لأنفسنا لقاءً ما، وها أنت منذ رسالتك الجديدة «لماذا تسميها رسالة أولى؟» تقترح بذكائك الذي أعرفه قاعدة للعبة، وكأنك لا تعرف أخاك في عناده «برج الثور» وشهوته الفادحة للعب بالقواعد!» نحن مطالبان بألا نشوه صورة نمطية أعدتها لنا المخيلة العامة.
هكذا تقول في رسالتك، هديتك الرائعة لي في يوم ميلادي المروع، لا بأس عليك يا أخي الحبيب؛ فهناك من هم أقدر منا على تشويه «صورتنا النمطية هذه»، أما نحن فما علينا إلا أن نرمم «المخيلة العامة».
وعندما رحل درويش، انفرط عقد الرسائل، وشعر القاسم بالوحدة، وأن صديقه تخلى عنه ومضى؛ فرثاه بقصيدة هي أشبه بالعتاب لتركه وحيداً متسائلاً بأسى: لمَ لمْ تأخذني معك؟
«خذني معك»:
تخليت عن وزر حزني
ووزر حياتي
وحملتني وزر موتك،
أنت تركت الحصان وحيداً.. لماذا؟
وآثرت صهوة موتك أفقاً،
وآثرت حزني ملاذاً
أجبني. أجبني.. لماذا؟
لقد كان القاسم مع الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، والذي توفي قبله بست سنوات وفي ذات الشهر، من أهم رموز أدب المقاومة الفلسطينية، تشاركا خلال حياتهما حبهما لفلسطين والوطن والنكبة الفلسطينية بتفاصيلها؛ ليخرجا بمؤلفات مملوءة بالفكر والإبداع، ستبقى منهلاً للأجيال القادمة، ومنبعاً لا ينضب للمشاعر الإنسانية والوطنية.