رشحه نجيب محفوظ لجائزة نوبل من بعده.. وأقر الناشر سهيل إدريس بأن رواياته تحقق انتشارًا موازيًا لانتشار دواوين نزار قباني.
حنا مينة، روائي ومبدع سوري رحل صباح يوم الثلاثاء 21 أغسطس- آب 2018 الماضي، بعد صراع مع المرض عن عمر ناهز الـ94، كان يفخر بأنه صنيعة الله والطبيعة، وأحد أبرز كتاب الرواية في الأدب العربي المعاصر؛ حيث ترك وراءه ثروة أدبية هامة تجاوزت الـ40 رواية عربية، ومجموعات قصص قصيرة ومقالات ودراسات أدبية.
يصف حنا مينة نفسه دائمًا، بأنه سفير الماء والبحر إلى اليابسة، ولا يفخر بلقب آخر سواه لعشقه غير العادي للبحر وناسه البسطاء الذين عاشرهم خلال عمله في بداية حياته وشبابه في الميناء.
قبطان الرواية العربية
ويعتبر حنا مينة بالأمس واليوم (قبطان) الرواية العربية الذي يقود مركبتها بمعالجة أدبية فذة، مستلهمًا من طفولته الشقية الأحداث الإنسانية الفريدة، ويسترجع الشخصيات من واقعه الخاص بجرأة وشجاعة، ليبدعها من جديد في صراعه الدائم مع الحياة ومع الورق.
حقق العمل التلفزيوني (نهاية رجل شجاع) المأخوذ عن رواية له حملت الاسم نفسه نجاحًا عربيًا غير مسبوق في عام 1994.
حنا مينة لا يخجل أنه نشأ مع الناس الذين في الحضيض فقد تميز باستلهامه أعماله من بيئته الخاصة التي عاش فيها، ولم يخجل يومًا من الاعتراف بأنه عاش في بيئة متواضعة، واعترف بأنه لخص سيرته الذاتية في العديد من رواياته خاصة: «بقايا صور»، و«القطاف» وخص بالذكر روايته الفريدة «المستنقع» التي تسرد بصدق كامل، حسب وصفه شخصيًا: مرحلة دخوله المدرسة الابتدائية، وتفتح وعيه على ما حوله، من كائنات وأشياء وأحداث، ونمو إحساسه الشخصي بالفقر الشديد، وكان من الطبيعي أن تلهمه هذه البيئة الغنية إنسانيًا أفكار رواياته حول العدالة الاجتماعية، ودفعته للكفاح في سبيلها فشارك في طفولته بالمظاهرات المطالبة بخروج الاحتلال الفرنسي من سوريا، وبرغيف خبز يشبع جوعهم وسكن يعيشون فيه؛ حيث كان يعيش كثير من الناس في العراء والمستنقعات.
نشأ حنا مينة سنوات طفولته في الشقاء في «اللاذقية» ثم في «السويدية» ثم في «بر أرسوز» في الأرياف، والأخير عاشت فيه عائلة حنا مينة ثلاث سنوات كاملة قبل أن تعود إلى إسكندرونة، ومعاناته مع الفقر في طفولته، ومعاناته مع السياسة في شبابه أمدته بموهبة أدبية فذة، وقدرة خاصة على كتابة أدب إنساني فيه مزيج ما بين حياة البر وحياة البحر، فخلق أدبًا خاصًا عجز الأدباء العرب عن تقليده به، فتفرد أدبه على المستويين العربي والعالمي.
معاناته في الكتابة
معاناته كبيرة في الكتابة ووصفها قائلاً: الجنون، المغامرة، العداء السري والمعلن للورقة البيضاء على مكتبه، ثم الصراع معها، بحيث قال يومًا: إنني أموت كل ليلة، وأحيا كل صباح، لذلك فإن الكتابة، وخاصة كتابة الرواية، أعتبرها مهنة حزينة، مؤلمة، وقذرة.
أما عن طقوسه الخاصة في كتابة أدبه الروائي فيقول: إني لا أكتب في النهار أو في المقهى أو في وقت قصير متاح لي، الوقت القصير تأكله تحميه النفس، الرواح والمجيء والدوران في المكتب، الدخول في حالة الكتابة، حالة الانخطاف إلى عالم آخر، هو عالم الرواية الذي أبنيه وفق قاعدة هندسية، لذلك فهناك تشابه بين البناء المعماري والبناء الروائي، ويكون عليّ قبل البدء أن أهدم عالمًا عتيقًا، وأبني عالمًا جديدًا، من صنعي هذه المرة، الروائي صانع عوالم
أديب البحر
وعن سر انجذابه للكتابة عن البحر يعلن بفخر: أنا ابن البحر، وأنا أديب البحر الوحيد في الأدب العربي كله الحديث والقديم معًا. فقبلي لم يكن هناك في العربية ما يسمى (أدب البحر) مع أن هذا الأدب موجود في آداب كل الأمم، ويشكل ركنًا أساسيًا في صرحها الإبداعي.
تأثره بأدب نجيب محفوظ
تأثر الأديب الراحل حنا مينة بقلة من الأدباء العرب والأجانب، وحرص على تجنب ذكر أسمائهم، وكان يذكر من بينهم فقط: نجيب محفوظ لتأثره الشديد بأدبه الواقعي العميق المشابه لواقعيته الأدبية في رواياته.
هذا ما قاله عن نفسه
وحين قيل عنه إنه رائد الرواية العربية الواقعية في سوريا في أواخر القرن العشرين قال:
لم أدعِ يومًا أنني رائد الرواية في سوريا أو غيرها. هذه تصنيفات النقاد والقراء، وبحيادية كاملة، كما هو مطلوب، أستطيع القول إنني من الروائيين العرب البارزين، أما إذا كان الكلام يدور حول الانتشار، فإنني أكثر الروائيين العرب انتشارًا، وبشكل مساوٍ، كما يرى صاحب دار الآداب الدكتور سهيل إدريس، لانتشار دواوين الشاعر نزار قباني، حسبما جاء في تصريح للراحل الدكتور سهيل إدريس نشر في جريدة (الوطن) الكويتية.
المجتمع الطبقي ظلمه
وحول أشكال الظلم الذي تعرض لها في حياته صرح حنا مينة: ظلمني المجتمع الطبقي الظالم، كما فعل مع غيري، لكنني قاومت ظلم هذا المجتمع ولا أزال أقاومه.
ونصح الأدباء بألا يقربوا الكتابة الصحفية التي اشتغل فيها حنا مينة سنوات طويلة مضطرًا؛ لكنه حين عمل مستشارًا ثقافيًا في وزارة الثقافة السورية امتلك القوة لهجرها نهائيًا، ورفض العودة إليها وقال فيها: من الرأي الصائب على المبدع، إذا استطاع، أن يبتعد قدر الإمكان عن الاستهلاك الصحفي اليومي، فلغة الصحافة تستنزف الثروة اللغوية لدى الكاتب.