"عندما يُغلق باب السعادة، يُفتح باب آخر لها، ولكن في الكثير من الأحيان ننظر طويلاً إلى الأبواب المغلقة، بحيث لا نرى الأبواب التي فُتحت لنا".
وقالت أيضاً: "الحياة إما مغامرة جريئة، وإما لا شيء".
عندما نقرأ هاتين العبارتين، ندرك جيداً لماذا كانت "هيلين كيلر"، واحدة من أبرز الشخصيات في التاريخ الحديث، خاصة عندما ندرك أن هذه المفكرة والناشطة والأديبة الأمريكية، قد أصيبت بالعمى والصمّ، وهل لا تزال في عمر الـ18 شهراً فقط، أي أنها لم تتجاوز عامها الثاني بعد، وكانت قد عاشت كل حياتها تقريباً في العتمة، ولكننا عندما نقرأ سيرة حياتها، ندرك أنها كانت روحاً كاملة من النور، وشخصية صلبة رفضت أن تستلم لمصيرها.
هكذا كانت البدايات ..
في القرن التاسع عشر، وتحديداً، بتاريخ 27 حزيران / يونيو من العام 1880، وُلدت المفكرة والناشطة والكاتبة الأديبة الأمريكية "هيلين كيلر" ورأت النور لأول مرة، وكان ذلك في مقاطعة "توسكومبيا" في ولاية "آلاباما" جنوب شرق الولايات المتحدة الأمريكية، والدتها تدعى "كيت آدامز"، ووالدها كان العقيد "آرثر كيلر"، واحد من القيادات البارزة في الجيش الكونفدراليّ الأمريكي في ذلك الوقت. وولدت "هيلين كيلر"، طبيعية مثل أي طفل آخر بصحة كاملة، ولكنها عندما بلغت عمر الـ 18 شهراً، ساءت حالتها الصحية وفقدت بصرها وسمعها، وذلك عقب إصابتها بمرض "الحُمّى القرمزية"، وهو الأمر الذي جعل السنين التالية من طفولة "كيلر" قاسية، وصنع لها شخصية وحشية رافضة لواقعها.
"آن سوليفان".. وتأثيرها على حياة "هيلين كيلر"
عندما بلغت "هيلين كيلر" عامها السادس، تم عرضها الطبيب "ألكسندر غراهام بيل"، الذي أوصى بأن يتم إرسالها إلى معلمة خاصة، واقترح على عائلة "كيلر"، أن يتم اختيار معلمة تُدعى "آن سوليفان"، من معهد "بيركنز" المُختص بالأطفال المكفوفين، في ولاية "بوسطن"، وهنا بدأ فصل جديد عاشته "هيلين"، كان له التأثير الأكبر على ما تبقى من حياتها.
بدأت "آن سوليفان" العمل مع الطفلة "هيلين"، خلال شهر آذار / مارس من العام 1887، أي عندما كانت بالسابعة من عمرها، ولم تتركها "سوليفان" أبداً طوال 49 عاماً كاملة، حتى لاقت أجلها في العام 1936، وعلى الرغم من أن هذه المعلمة ذات الأصول الإيرلندية، كانت بالأصل تعاني من مشاكل في الرؤية، إلا أنها نجحت نجاحاً مُبهراً واستثنائياً مع "هيلين"، حيث تمكنت من ترويض الوحش داخل هذه الطفلة المريضة، وتعليمها الأدب واللباقة، كما أنها تمكنت من تعليمها الحروف الهجائية، وتهجئة الكلمات بطريقة صحيحة، وكانت "هيلين" تبدي استجابة كبيرة لكل ما تتعلمه من "سوليفان".
بعد 3 أعوام فقط من التعليم على يد "سوليفان"، وتحديداً في العام 1890، تمكنت "هيلين كيلر" من الإنضمام إلى مدرسة "هوراس"، وأخذت عدداً من دروس التخاطُب الخاصّة بالصُّم، ثم بعد ذلك نجحت بأن ترتاد مدرسة خاصة بالصُّم اسمها "رايت هوماسون" في مدينة نيويورك الأمريكية، وكان العام 1896 حاسماً في حياة الأديبة والناشط الأمريكية، حيث كانت مصممة للغاية على دخول الجامعة، رغم ما تعانيه من فقدان للبصر والسمع، والتحقَت بمدرسة "كامبريدج" الإعداديّة الخاصّة بالفتيات، حتى تتمكن من تحقيق حلمها.
العناد حتى تصل إلى النجاح، وإرادتها القوية الصلبة، وعدم استسلامها لما هي عليه، جعل قصة "هيلين كيلر" تنتشر بشكل واسع بكل أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، وهو الأمر الذي لفت انتباه العديد من المشاهير في البلاد، وكان من بينهم، الكاتب الأمريكي الساخر الشهير "مارك توين"، الذي كان قد تعرف عليها شخصياً، وقام بدوره بتعريفها على صديقه "هنري روجر"، أحد أبرز وأهم الإداريّين في شركة "ستاندرد أويل"، الذي ساعدها حتى تلتحق بكلية "رادكليف"، كما أنه كان قد قام بدفع جميع تكاليف دراستها هناك، وكان لمعلمتها وصديقتها "آن سوليفان" دورها المهم في هذه الفترة، حيث أنها كانت تساعدها على شرح النصوص والمحاضرات في دراستها.
فصل جديد آخر في حياة "كيلر" ..
بدأت حياة "هيلين كيلر" بشكل حقيقي، كمؤلفة وناشطة مدافعة عن حقوق الإنسان، بعد تخرجها من كلية "رادكليف" خلال العام 1904، وذلك عقب التحاقها بالحزب الإشتراكي في البلاد، وهناك، كتبت العديد من المقالات والدراسات المختلفة، وبدأت حياتها كناشطة حقوقية لم تكتفِ فقط بالكتابة عن حقوق المرأة بما يتعلق بحقها بالتصويت والإنتخاب، بل وكانت تعمل على مساعدة نساء أمريكا للقيام بهذا الأمر أيضاً، كما أنها أبدت اهتماماً بكل ما يتعلق بأمور العائلة والأطفال والنسل، وكانت من بين الأشخاص الذين وضعوا حجر الأساس الأساس لمؤسَسة خاصة بمكافحة سوء التغذية، والآثار الجانبيّة لفُقدان البصر، التي أطلق عليها لاحقاً اسم "هيلين كيلر إنترناشيونال".
بالفترة الواقعة ما بين العامين 1946 - 1957، تسلمت "هيلين كيلر"، منصبَ مُستشارة العلاقات الدوليّة في إحدى المُؤسَّسات الخاصّة بالمكفوفين، وسافرت خلال هذه الفترة برحلة طويلة استمرت لأكثر من 5 أشهر عبر القارة الآسيوية، التقت خلالها بالعديد من الناس، وألقت عدة خطابات مهمة وملهمة في كل مكان زارته.
لكل بداية نهاية.. الفترات الأخيرة من حياة حافلة
في عامها الثمانين، وتحديداً خلال العام 1960، تعرضت "هيلين كيلر"، لسكتة دماغية حادة، أجبرتها على التزام منزلها في ولاية "كونيتيكت" الأمريكيّة طوال عام كامل، حيث ظهرت مرة واحدة خلال هذه الفترة فقط، في اجتماع خاص بمؤسسة واشنطن الدوليّة، حيث تم تكريمها في ذلك الوقت لمساعدتها في البرامج الخاصّة بالمكفوفين، إلا أن حالتها الصحية منعتها من الظهور بعد ذلك.
بعد سبعة أعوام من تكريمها هذا، وتحديداً في الأول من شهر حزيران / يونيو من العام 1968، توفيت "هيلين كيلر"، عن عمر ناهز الثمانية وثمانين عاماً، رحلت بعد حياة طويلة وحافة، تمكنت خلالها من كسر وهزم جميع الصعوبات والتحديات التي واجهتها، لتثبت أن الإرادة أقوى من أي طرف يعيشه الإنسان، ولم تُدفن "كيلر" وقتها، بل تم إحراق جثمانها ووضع رمادها في كنيسة "القِدِّيس جوزيف"، في كاتدرائيّة واشنطن، إلى جانب رماد رفيقتَي دَرْبها "بولي تومبسون"، و"آن سوليفان".
"هيلين كيلر".. المؤلفة والكاتبة والأديبة
خلال سنين حياتها الثمانٍ والثمانين، ألفت ونشرت "هيلين كيلر" 18 كتاباً في موضاعات مختلفة، ومن أشهر هذه المؤلفات وأبرزها، "العالم الذي أعيش فيه"، "أغنية الجدار الحجري"، "الخروج من الظلام"، "الحب والسلام"، وكتاب "هيلن كيلر في اسكتلندا"، ويُشار إلى أن مؤلفات "هيلين كيلر"، كانت قد تُرجمت إلى أكثر من 50 لغة عالمية.
ومن الجدير بالذكر، أن قصة حياة "هيلين كيلر" الحافلة والملهمة، كان قد تم تحويلها إلى العديد من الأعمال الدرامية التلفزيونية والسينمائية والمسرحية، التي لاقت رواجاً ونجاحاً كبيراً، ومن بينها مسلسل "ذا ميركيل ووركرThe Miracle Worker"، أو "العامل المعجزة"، وعمل مسرحي آخر تم تقديمه على خشبات مسارح "برودواي" الشهيرة في العام 1959.