لم يكن يدري ذلك الطفل الأشقر الصغير الذي رأى النور أول مرة في 9 آذار-مارس من العام 1934، في قرية «كلوشينو» الروسية، أنه وبعد 27 عامًا من يوم ولادته، سيدخل التاريخ ويضع اسمه مع عظماء العالم الذين صنعوا حضارتنا الإنسانية. لم يكن حينها رائد الفضاء السوفييتي «يوري غاغارين»، يعلم بأنه سيكون أول شخص ينطلق برحلة إلى الفضاء الخارجي في تاريخ البشرية، وأول شخص سوف يرى كوكبنا الأرض من الفضاء.
الطفل الذي صنع التاريخ
طوال الأعوام الـ58 الماضية، يحتفل العالم في تاريخ 12 أبريل (نيسان) من كل عام، بواحد من أعظم الإنجازات البشرية على الإطلاق، وذلك عندما تمكن الاتحاد السوفييتي السابق في مثل هذا اليوم عام 1961. من إطلاق مركبة «فوستوك1» الفضائية، التي حملت أول إنسان يخرج من كوكب الأرض، ويكتشف الفضاء في تاريخ البشرية. ولكن من هو «يوري غاغارين»، رائد الفضاء السوفييتي الذي نال هذا الشرف وفتح أبواب الحديقة الخارجية لكوكبنا، حتى يغزوها ويكتشفها العلماء من بعده...؟
إنه «يوري ألكسيافيتش غاغارين»، والمعروف باسم «يوري غاغارين»، الابن الثالث في الترتيب من بين 4 أبناء لعائلة روسية فقيرة، كانت تعيش في قرية «كلوشينو» بالقرب من منطقة «غزاتسك» الواقعة غرب العاصمة الروسية «موسكو». والده كان نجارًا بسيطًا، ووالدته كانت ربّة منزل، إلا أنها شغوفة بالقراءة والكتب. وأنجباه في 9 آذار-مارس من العام 1934. وأمضى «غاغارين» الطفل معظم أعوامه الأولى في قريته «كلوشينو»، قبل أن يلتحق بالمدرسة خلال خريف العام 1941.
وبحسب موقع «سبوتنيك» الروسي الناطق بالعربية، فإن «غاغارين» منذ أول طلعته ووعيه، أبدى اهتمامًا بالعلوم وبالسماء عمومًا، وكان هذا الاهتمام ما وجهه خلال العام 1951، حتى يلتحق بـ«المعهد الصناعي» في مدينة «ساراتوف» الروسية، ومن ثم بنادي الطيران المحلي، إذ أصبح طيّارًا ماهرًا، ونفذ خلال دراسته بنادي الطيران ما يقارب الـ200 طلعة جوية. وذلك قبل أن يتم استدعاؤه بعد 4 سنوات، وتحديدًا خلال العام 1955. للخدمة في الجيش السوفييتي، حيث نجح حينها بالتخرج في كلية الطيران الحربي، ليخدم طوال عامين في «فوج المقاتلات» بأسطول الشمال.
«غاغارين» الطيّار...
بعد أن نجح الاتحاد السوفييتي بإرسال أول مركبة إلى الفضاء، والتي أطلق عليها اسم «سبوتنيك1» خلال العام 1957. شدّ هذا الحدث التاريخي الطيّار الشاب «يوري غاغارين»، حتى يكتشف مجالًا جديدًا، ألا وهو «الفضاء»، وفي الأيام الأخيرة من العام 1959. قام بتقديم طلب للانضمام إلى مجموعة من المرشحين لارتياد الفضاء بتجربة سوفييتية رائدة.
كان يومًا حاسمًا عندما عرف «غاغارين»، أنه تم قبول طلبه، حيث تم نقله إلى العاصمة الروسية «موسكو»، وأجريت له العديد من الفحوص الطبية في المستشفى المركزي للبحوث العلمية الخاصة بالطيران، بالإضافة إلى تلقيه التدريبات اللازمة لهذه المهمة الجديدة. وانضم الشاب السوفييتي رسميًا إلى الفريق المرشح لهذه المهمة.
كان على العالم السوفييتي «سيرغي كوروليوف»، كبير مصممي الصواريخ الفضائية، وأحد المسؤولين عن هذه المهمة، أن يختار شخصًا واحدًا مناسبًا للرحلة. ووضع وقتها عددًا من الشروط التي يجب توفرها في المرشحين، من بينها أن يكون بصحة ولياقة مناسبة، وأن لا يتجاوز عمره الـ30 عامًا، وأن يكون وزنه في حدود الـ72 كيلوغرامًا، بالإضافة إلى أن يكون طول قامته 170 سنتيمترًا. وذلك حتى يتمكن من الصعود إلى مركبة «فوستوك»، وأن تتناسب صفاته مع وزن وحجم المركبة المرتبطين بقدرة الصاروخ الذي سيحملهما.
في البداية، كان عدد الأشخاص المرشحين لنيل شرف أول تحليق إلى الفضاء، قرابة الـ200 شخص متدرب. فيما بعد، تناقص العدد إلى 20 شخصًا، قبل أن يقترب المرشحون إلى ساعة الصفر، ويبقى منهم 6 أشخاص سيتم في نهاية الأمر اختيار شخص واحد منهم فقط، للقيام بهذه المهمة التاريخية. ظل المرشحون يتناقصون حتى وقع الاختيار أخيرًا على «يوري غاغارين»، وكان بديله الاحتياطي في هذه المهمة هو «غيرمان تيتوف».
اقتربت «ساعة الصفر»
في تمام الساعة 9:07 من صباح يوم الأربعاء 12 نيسان-أبريل من العام 1961، تم إطلاق أول رحلة بشرية إلى الفضاء الخارجي، من خلال مركبة «فوستوك1»، وعلى متنها رائد الفضاء السوفييتي «يوري غاغارين». وكانت هذه اللحظة التاريخية قد انطلقت من مطار «بايكونور» في كازاخستان. ونجحت المراحل الأولى من الرحلة، بعد أن استطاعت المركبة الخروج من الغلاف الجوي لكوكب الأرض، وكانت كل المؤشرات الحيوية لـ«غاغارين»، تبدو على خير ما يرام.
بعد نجاح المراحل الأولى من هذا الحدث الذي كانت يترقبه العالم كله، وبعد أن خرجت المركبة «سبوتنيك1» من الغلاف الجوي. بدأ «غاغارين» على متن المركبة السوفييتية، بالقيام بأول دوران حول الأرض، وفعل ذلك لدورة واحدة كاملة، استمرت لمدة ساعة و48 دقيقة قبل أن يستعد للهبوط مرة أخرى. حيث وصل في كبسولة المركبة في تمام الساعة العاشرة و55 دقيقة و34 ثانية من ذلك الصباح. ليكون «يوري غاغارين»، أول إنسان ينطلق برحلة بشرية إلى الفضاء في التاريخ.
«غاغارين» بعد رحلته التاريخية
بعد نجاح رائد الفضاء السوفييتي «يوري غاغارين» بهذه المهمة، ونيله شهرة واسعة للغاية في مختلف أرجاء العالم، بدأ نشاطًا سياسيًا واجتماعيًا كبيرًا، ودرس في أكاديمية «جوكوفسكي» الحربية لهندسة الطيران، وعاد «العقيد الطيّار» بممارسة الطيران مرة أخرى بشكل مكثف. وخلال العام 1964. تولى منصب نائب مدير مركز إعداد رواد الفضاء السوفييتي.
نهاية غامضة
في الساعة 10:18 من صباح يوم الـ27 آذار-مارس من العام 1968. خرج «غاغارين» برفقة مرشده العقيد الطيار «فلاديمير سيريوغين»، برحلة جوية بطائرة طرازها «ميغ 15» من مطار «تشكالوفسكي» في موسكو. ولأسباب غامضة، طلب «غاغارين» بعد 4 دقائق فقط من انطلاقه بالرحلة أن ينهيها ويعود إلى المطار. ولكن الاتصال كان قد انقطع به بعد ذلك.
بعد عدة ساعات من انقطاع الاتصال بـ«غاغارين»، عُثر على حُطام الطائرة التي يقودها في مكان يبعد 65 كيلومترًا عن مطار «تشكالوفسكي». ورغم أنه تم تشكيل لجنة حكومية للتحقيق في بعد هذه الحادثة المأساوية. إلا أن التحقيقات لم تتمكن من تحديد الأسباب الحقيقية للكارثة، التي ظلت غامضة حتى يومنا هذا. وتكريمًا له ولـ«سيريوغين»، وضع رماد رفاتهما عند سور الـ«كرملين».
اسم «غاغارين» وروحه في كل مكان
بعد وفاة «غاغارين»، أطلق اسمه على مسقط رأسه «غزاتسك»، ليصبح اسمها الجديد «غاغرين». كما أطلق اسمه على منطقة وفوهة بركانية على الجانب الآخر للقمر. بالإضافة إلى إطلاقه على الكويكب رقم «1772» في الفضاء، وعلى ميدان بالعاصمة موسكو يوجد فيه نصب تذكاري له. كل هذا إلى جانب العديد من المدن والشوارع والميادين والمدارس والنوادي وغيرها من الأماكن التي أطلق عليها اسم «يوري غاغارين»، تكريمًا لأول رائد فضاء في التاريخ.
كما أنه يتم ذكر اسمه وإنجازه بتاريخ 12 نيسان-أبريل من كل عام، عبر «يوم رواد الفضاء»، الذي تحتفل به روسيا وعدد من الدول التي كانت ضمن الاتحاد السوفييتي السابق. إلى جانب «اليوم العالمي للرحلة البشرية إلى الفضاء»، الذي تحتفل به الأمم المتحدة والعالم كله في تاريخ إطلاق تلك الرحلة التاريخية.
«يوري غاغارين».. وأول رحلة للإنسان إلى الفضاء
- قصص ملهمة
- سيدتي - محمد المعايطة
- 13 أبريل 2019