قرية "الفاو" الأثرية، أو كما تُعرف في السابق بـ "ذات كهل" و "ذات الجنان"، عاصمة مملكة كندة الأولى. تقع في جنوب غربي المملكة العربية السعودية، وعلى بعد 700 كم تقريباً من العاصمة الرياض، عند ملتقى وادي الدواسر مع صحراء الربع الخالي تحديداً، تبرز شواهد حضارة تعود إلى 400 عام قبل الميلاد، وتُعد واحدة من أهم الحضارات في العالم آن ذاك.
ويعني اسم "الفاو" الوادي المنشقّ بين جبلين، ونسبة لموقعها تسمّت بهذا الاسم، كما أطلق عليها اسم "ذات كهل" نسبة للتمثال الشهير "كهل"، أما عن اسم "ذات الجنان" فيعود سببه لثروتها الزراعية، حيث كانت عاصمة مملكة كندة الأولى محاطة بأشجار النخيل، وكروم العنب، كما اشتهرت بزراعة الحبوب المختلفة، فكانت مدينة تسرُّ الناظرين القادمين إليها لشدة اخضرارها.
ما يفسّر ذلك الثرّاء الزراعي هو خصوبة تلك الأرض، إضافة إلى تنوّع مصادر المياه بالقرية، فكانت تحتوي على أكثر من 17 بئراً، فضلاً عن تميّزها في أنظمة الريّ التي لم يكن لها مثيل آن ذاك، فلعاصمة مملكة كندة الأولى شبكة من القنوات المائية المصممة بتصميمٍ مبتكر، لتغذّي كامل المدينة بالمياه العذبة القادمة من مصادرها التي تُعد نوعاً ما بعيدة عن المساكن.
قرية "الفاو" الأثرية
تُعد "الفاو" القرية الأثرية الوحيدة المدفونة تحت الرمال بالكامل، حيث كانت مغمورة تحت الأرض دون بروز أيٍ من معالمها، وخلال الأربعينيات الميلادية انطلقت بعثة من شركة أرامكو للبحث والتنقيب عن البترول، وفي تلك البقعة التاريخية باشرت البعثة أعمالها، سعياً منها لاكتشاف كنزٍ ماديٍّ جديدٍ للمملكة، وإذا بهم يزيحون الرمال عن كنز من نوع آخر أضافة للثروة الثقافية الوطنية، حيث كان في كل مترٍ من التنقيب ينكشف جزءٌ من تلك الحضارة التاريخية، إلى أن أصبحت تلك القرية رمزاً هاماً لمحفظة التراث العالمي.
ولـ "الفاو" ثراؤها الثقافي الذي تشكّل من نبع مختلف الثقافات بالعالم في ذلك الوقت، نظراً لتمركزها على الطريق التجاري الممتد من جنوب شبه الجزيرة العربية إلى شمالها، فكانت جميع القوافل القادمة من جنوب الجزيرة تمرّ بها، كونها المصدر الرئيسي للمياه، والتزوّد بالغذاء، ومع مرور الزمن كوّنت تلك العاصمة اختصاصها الثقافي، وثراءها المادّي، وسيطرت على أنواعٍ من التجارة المختصّة بالنبلاء.
يبدأ بعد قليل اللقاء الافتراضي بعنوان "المنظر الثقافي لمنطقة الفاو | قصة موقع تراث عالمي"
— هيئة التراث (@MOCHeritage) September 2, 2024
لحضور اللقاء:https://t.co/WcWbyO5qFZ#هيئة_التراث https://t.co/jxryBCd1vq
وازدهرت القرية في الفترة ما بين القرن الرابع قبل الميلاد إلى القرن الرابع الميلادي، كما اشتهرت عاصمة مملكة كندة بتجارتها الفريدة، حيث كانت متخصصة بتجارة الحليّ، والأحجار الكريمة، والعود، وكل ما له علاقة بالزينة، كما تكوّنت جميع المقوّمات الحضارية بتلك البلدة، فسكّت العملة، وأنشأت القنوات، وكانت ملتقى لمختلف الأديان، ومركزاً سياسياً وتجارياً مهماً بجزيرة العرب؛ لتصبح محطة رئيسية لكافة القوافل التجارية عبر مختلف العصور القديمة، وهذا يعكس لنا مدى رقيّ تلك الحضارة.
ولـ "الفاو" طرازها المعماري الفريد الذي يميّزها عن مختلف الحضارات، وفي هذا الإطار أجرت هيئة التراث مجموعة من الدراسات والأبحاث العلمية التي أُجريت لفهم أسلوب عمارتها، فأسفرت نتائجها عن توثيق البيوت السكنية التي بُنيت من الطين والحجر الكلسي، كما كان بعضها مزوّدا بأفنية داخلية وحدائق صغيرة، ممّا يعكس مستوى الرفاهية العالي التي كان يعيشها سكانها.
توثيق هيئة التراث
وثّقت هيئة التراث خلال أعمالها الأثرية في الموقع مجموعة من الآثار المتنوّعة التي تتمثّل في: مجموعة من العملات، والحليّ، والمجوهرات، والتماثيل، والأواني الزجاجية، ومنها الحجرية، وكسرٍ فخارية، وأدوات حجرية، إضافة إلى عدد من النقوش، والفنون الصخرية التي تعكس في مجملها العمق الحضاري الذي كانت تحظى بها تلك القرية.
إن قرية "الفاو" الأثرية هي نافذة تطلّ على تاريخ يجسّد حضارة مزدهرة استطاعت أن تترك بصمة واضحة في تاريخ الجزيرة العربية، وذلك ما وثّقته الاكتشافات الأثرية والتاريخية بها، ومن خلالها يمكننا أن نستشعر مستوى الحياة الرّفيع الذي كانت تعيشها هذه القرية التي كانت شاهدة على قدرة الإنسان بالتطوّر والازدهار حتى في أصعب الظروف البيئية.
في سياق منفصل: تدشين مشروع اليمامة الأثري في الرياض بإشراف من هيئة التراث السعودية
يمكنكم متابعة آخر الأخبار عبر حساب سيدتي على إكس