لن تصدقوا من هي "حورية"، لقد كانت رمز لأمهات فلسطين في يوم من الأيام، أما اليوم فهي رمز صمود كل الأمهات في بلدان الحروب العربية، سواء الأم العراقية أو السورية أو اليمنية، أمهات ابتعدن عن أبنائهن قهراً في سبيل الحياة.
أنجبت حورية أسطورة من أساطير الشعر العربي وكان طفلها الأوسط، في طفولته كانت تساوره الشكوك أنه يملك أقل نصيب من محبة أمه بين إخوته، فإذا حمّلت ابنها الأكبر مسؤولية، أشركته لأنه من أبنائها الكبار، وإن أخطأ الصغير، وبخته لاعتبارها أنه مازال من الصغار، لكن سرعان ما زالت تلك الشكوك عندما بلغ العشرين وسمعها من خلف قضبان الاحتلال الذي اعتقل فيه، تتوسل باكيةً للسجّان رؤية ابنها المعتقل، أرادت أن تطعمه خبزها الذي خبزته بيدها. أن تسقيه قهوتها التي صنعتها.. أن تلمه.. أن تلمسه بعد طول غياب.
سُمح لها بالدخول احتضنته كطفلٍ صغير وبكت شوقاً وفرحاً، فبدأ الابن بتقبيل يديها كما لم يفعل من قبل.
هل عرفتم من هو الأسطورة الشعرية التي هزت مشاعره قطعة خبز وقهوة خلف القضبان ليدوّن تلك اللحظات، وتُغنَّى وتُردَّد في كل بقعة من بقاع الأرض العربية؟
إنه محمود درويش شاعر المقاومة وصوت الأم والابن والأرض الفلسطينية.
بين أحضان أمه أصاب الشاعر عجزاً في التعبير، فلم يستطع وقتها سوى تقبيل يدها، لكن بمجرد رحيلها تناول ورقة ألومينيوم خاصة بعلب السجائر واستند على أحد زوايا الزنزانة وكتب قصديته المشهورة "قصيدة اعتذار" يقول مطلعها:
أحنُّ إلى خبز أمي
وقهوة أمي
ولمسة أمي
وتكبُر فيّ الطفولةُ
يوماً على صدر يومٍ
وأعشَقُ عمرِى لأني
إذا مُتُّ، أخجل من دمع أمي!
من هنا أحس درويش كم ظلم أمه عندما كان طفلاً، فهي لم تحبه فحسب بل كانت تعشقه كما تعشق كل الأمهات صغارها الذين لا يكبرون على حضنها.
"حورية" أصبحت بعد هذه القصيدة حاضرة في العديد من قصائد ابنها، وتمثل بذلك كل الأمهات الفلسطينيات وأمهات الشهداء والنازحين، الأم التي أخذها رمزاً للكفاح الذي يحمل في جنباته العطف والحنان وقوة الأمة وآلاف الرجال.
لا ننسى موقف السيدة "حورية" عند وفاة محمود درويش؛ حيث قامت من فراش المرض بكرسيها المتحرك، لتشارك آلاف المشيعين لجنازة ابنها، وتحضر معها تراباً من قريته الجليلية لتضعه فوق قبره.
"سيدتي" تستعرض بعض الأبيات التي كتبها محمود درويش في أمه، وتهديها لكل الأمهات العربيات اللواتي يعشن حالتها اليوم.
1. أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها
أجمل الأمهات التي انتظرته
وعاد مستشهداً
فبكت دمعتين ووردة
ولم تنزو في ثياب الحداد
آه.. آه.. آه
لم تنته الحرب لكنه عاد
ذابلة بندقيته ويداه محايدتان
2. في بيت أُمِّي صورتي ترنو إليّ
ولا تكفُّ عن السؤالِ:
أأنت، يا ضيفي، أنا؟
هل كنتَ في العشرين من عُمري،
بلا نظَّارةٍ طبيةٍ،
وبلا حقائب؟
3. تضيء ليل أُمّه التي... تخاطب السماء والأشياء
تقول: يا وسادة السرير! يا حقيبة الثياب!
يا ليل! يا نجوم! يا إله! يا سحاب!:
أما رأيتم شارداً... عيناه نجمتان؟
يداه سلتان من ريحان وصدره وسادة النجوم والقمر
وشعره أرجوحة للريح والزهر!
أما رأيتم شارداً مسافراً لا يحسن السفر!
راح بلا زوادة، من يطعم الفتى
إن جاع في طريقه؟
من يرحم الغريب؟
قلبي عليه من غوائل الدروب!
قلبي عليك يا فتى... يا ولداه!
قولوا لها، يا ليل! يا نجوم!
يا دروب! يا سحاب!
قولوا لها: لن تحملي الجواب فالجرح فوق الدمع... فوق الحزن والعذاب! لن تحملي... لن تصبري كثيراً.
لأنه ...
لأنه مات، ولم يزل صغيراً!
4. أُمِّي تَعُدُّ أَصابعي العشرينَ عن بُعْد.
تُمَشِّطُني بخُصْلَة شعرها الذَهَبيّ
تبحثُ في ثيابي الداخليَّة عن نساءٍ أَجنبيَّاتٍ وَتَرْفُو جَوْربي المقطوعَ.
لم أَكَبْر على يَدِها كما شئنا:
أَنا وَهي افترقنا عند مُنحَدرِ الرَّخام. ولوَّحت سُحُب لنا، ولماعزِ يَرِثُ المَكَانَ.
وأَنْشَأَ المنفى لنا لغتين:
دارجةُ .. ليفهمَهَا
الحمامُ ويحفظَ الذكرى
وفُصْحى..كي أُفسِّرَ للظلال ظِلالَهَا!