منذ أن نطق أول حرف في قصيدة شعر، كان الشاعر العراقي أحمد مطر، يرى أن الحبّ أكبر من رجل وامرأة، ربما يكون بحجم البلاد، أو ربما بحجم إنسانية تحمل كل ما في وجدانياتنا من معانٍ في الحرية والعدالة لكل الناس، هكذا كان مطر يرى قصيدته، وهكذا عاش وكتبها منذ الحرف الأول حتى الآن، صارخًا بالحرية لكل الناس، ورافضًا أي ظلم عليهم..
«أنا لا أكتب الأشعار.. فالأشعار تكتبني
أريد الصمت كي أحيا، ولكن الذي ألقاه ينطقني
ولا ألقى سوى حزنٍ، على حزنٍ، على حزنٍ
أأكتب أنني حيّ على كفني..؟
أأكتب أنني حرٌّ، وحتى الحرف يرسف بالعبودية..؟».
أول النَفَس عند أحمد مطر..
ولد أحمد مطر، أو كما يُلقب لدى البعض بـ«شاعر النهرين»، في قرية صغيرة تدعى «التنومة»، تقع في إحدى نواحي منطقة «شط العرب» في محافظة البصرة، أقصى جنوب العراق، وذلك خلال العام 1954، وعاش في «التنومة» سنين طفولته الأولى، وذلك قبل أن تنتقل أسرته لتقيم عبر النهر في «محلة الأصمعي»، التي سُميت بذلك تيمنًا بالشاعر العباسي «عبدالملك الأصمعي».
أول الشعر..
عرف أحمد مطر الشعر، عندما كان في الرابعة عشرة من عمره، وحينها كتب أول قصائده، وكأي شاب يشغله الحبّ في هذا العمر، لم يخرج في كتاباته عن مواضيع الغزل والمرأة، التي يكتب معظم الشعراء أولى قصائدهم – وحتى آخرها أحيانًا -، إلا أنه لم يجد نفسه في هذا المكان، وأيقن أن الحرية للشعوب، أمرٌّ أجلُّ وأكبر، فترك الحب والغزل والمرأة، وحمل على كتفيه همًّا إنسانيًا عظيمًا، فكيف يكتب عن المرأة ويتغزل بها، والبلاد تعيش تحت وطأة الظلم والاحتلال.
ومنذ سنٍّ مبكرة، دخل مطر معترك السياسة لا يحمل سوى حبه للبلاد والبسطاء وبعضٍ من قصائده، وشارك بالكثير من الاحتفالات والمهرجانات السياسية والوطنية، وكان حينها ذا نفسٍ طويل في قصائده، التي كانت تزيد عن الـ100 سطر شعري، محملة كلها بصرخات عن هموم المواطنين والفقراء، تقف بوجه أي فساد في السلطة، وتؤمن بالعدالة والحياة الكريمة لجميع الناس، حتى وصل به الأمر أن يترك وطنه العراق، ويتجه إلى الكويت.
الكويت.. بداياته في جريدة «القبس»
في عشرينيات عمره، عمل أحمد مطر في جريدة «القبس» في الكويت، التي كانت حينها بوصلة أي شاعر أو مثقف عربي، والتي ضمت في مكاتبها العديد من أسماء الشعراء والأدباء والفنانين والمفكرين الذين صنعوا شكل الثقافة والأدب في عالمنا العربي، كما عمل مطر مُدرّسًا للصفوف الابتدائية في عدد من المدارس الخاصة هناك، وفي تلك الأثناء، كان عوده في الشِعر لا ينفك يصير أقوى وأكثر نُضجًا وشجاعة، فمهما اختلفت المواضيع التي يكتب بها، كانت كلها تدعو إلى أمر واحد وصرخة واحدة، وهي «الحرية لجميع الشعوب»، وكانت «القبس»، هي نافذته الأولى ومنصته الكبيرة التي نشر خلالها صرخاته الشعرية هذه، حيث عرف القارئ العربي في تلك المرحلة «لافتات» أحمد مطر، التي كان يكتبها ونشرها بـ«القبس»، وعرفه الناس من خلالها.
«الحرية».. عنوان صداقة جمعت بين أحمد مطر وناجي العلي
خلال فترة عمل مطر في جريدة «القبس» الكويتية، تعرف على صديقه في النضال لأجل الحرية، رسام الكاريكاتير الفلسطيني الأشهر على الإطلاق «ناجي العليّ»، حيث التقيا خلال عملها معًا في الجريدة، والأمر خرج بينهما عن نطاق صداقة عابرة فقط، فقد كانا متفقين – تقريبًا – على كل شيء، يحبون الأمور نفسها، ويفكرون بالأمور نفسها، ويبغضون الأمور نفسها، وجمعتهما ذات القضايا العروبية والإنسانية، وكما كانت الصفحة الأولى في «القبس» تفتتح بقصيدة لأحمد مطر، كانت الصفحة الأخيرة تختتم أعداد الـ«قبس» بلوحة لناجي العليّ.
لندن.. محطة مطر الثانية بعد الكويت
خلال العام 1986، انتهت مرحلة أحمد مطر في الكويت، وكان عليه أن يُبقي صرخته بوجه كل ظلم واحتلال عالية ومسموعة، واختار خلال ذلك العام أن يبدأ مرحلة جديدة في العاصمة البريطانية لندن، التي لا يزال إلى اليوم يعيش فيها برفقة عائلته، وعلى الرغم من ذلك، ظل مطر يعمل في مكاتب «القبس» الدولية لفترة من الزمن وهو في لندن، وخلال وجوده هناك، توجه برحلة معرفية وشعرية إلى تونس، وتعرف على عدد من الشعراء والأدباء والمفكرين فيها، قبل أن يعود مرة أخرى إلى لندن للاستقرار هناك، حتى أنهى علاقته مع «القبس» تمامًا.
هكذا يرى أحمد مطر القصيدة.. وهكذا يرى الحبّ
حين يتجول القارئ في جميع أعمال الشاعر العراقي «الطريد» أحمد مطر، لا يجد أي قصيدة غزل واحدة فيها، وذلك كونه قرر أن يحمل همّ الحرية على كتفيه، وهو ما يعتبره همًّا أكبر وأولى للشاعر أن يحمله، وفي حوار صحفي قديم معه، سأل الصحفي المحاور مطر، عن إمكانية رجوعه لكتابة ولو قصيدة حب وغزل واحدة، بعيدًا عن السياسة والهم الإنساني، فأجابه مطر قائلاً: «إن الأرض تكرر دورانها حول الشمس كل يوم، لكنها لا تكرر نفسها حتى في لحظتين متتاليتين، والشعر العربي يكرر موضوع الحبّ منذ الجاهلية، والقضية برمتها هي عبارة عن رجل يعشق امرأة، وامرأة تحب رجلاً، فهل تستطيع القول إن الموضوع قد اختلف عن هذا يومًا ما؟».
وتابع أحمد مطر إجابته قائلاً حينها: «إن هذا الموضوع لم ينته بالتكرار، لأن هناك دائمًا زاوية جديدة للنظر، ونبرة جديدة للبوح وثوبًا جديدًا للمعنى، إني أتساءل ألا يكون الحبّ حبًّا إلا إذا قام بين رجل وامرأة؟! أليس حبًّا حنينك إلى مسقط رأسك؟، أليس حبًّا أن تستميت لاسترداد الوطن من اللصوص؟، أليس حبًّا أن تحاول هدم السجن وبناء مدرسة؟». وختم شاعر النهرين حديثه بالقول: «إن البكاء على الأهل والغضب على المقاول، هما أرفع أنواع الحب في مثل هذا الموقف».